وخامسها: اليقين القلبي الذي أوقعه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم ويبدل خوفهم أمنا وسلاماً، ويجعل العاقبة لهم، فبشرهم ووعدهم وجعل الأمل يدب في قلوبهم، فما كذبوا على استضعافهم، ولا نكلوا على قلتهم، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، بشر عمار بن ياسر، وبشر سراقة بن مالك، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم فأيقنوا وصدقوا.
* البناء والتمكين: لما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كل متاعهم وأموالهم، بل ونساءهم وأبنائهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعياً للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته، لما كان هذا حالهم مكن الله لهم في الأرض، وأذن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله، تمهيداً لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة، لقد أزالت الهجرة كل ذلك فالهجرة تجب ما قبلها، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية، زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل إنهم أصحاب الرسول وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه:"فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً "، وكما جاء في الحديث النبوي بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ".