* نظرة على الواقع الجاهلي: المستقرئ للسيرة النبوية وواقع الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وبعدها، يلمح الفارق الكبير بينهما، ويقف في اندهاش لما يراه من عظمة البناء الإسلامي، والتعليم النبوي، الذي أقامه الله تعالى لهذا الدين بالتمكين له، وجعله منهج حياة إسلامي، بعد أن ولت الجاهلية على أدبارها بما تحمله من عقائد وشركيات وثنية، وبما تحمله من تصورات ومعاملات وأخلاق وتشريعات جاهلية، وكتب السيرة والتاريخ سطر فيها حال الجاهلية كلها، وما وصلت إليه البشرية آنذاك من انتكاس في الفطرة، وانحطاط في الإنسانية، وتقديس للآلهة المصنوعة العاجزة، لقد عاش العرب في مثالب الجاهلية يرتعون، وفي ظلمات الشرك والوثنية يعمهون، وخلف شهواتهم ورذائلهم ينكبون، هذا هو زمان البعثة المحمدية حقاً جاهلية وأية جاهلية، وكما قال أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى:" بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً، فإذ كل شيء فيه في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر، ومنه ما تكدس وتكوم. نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته، فلم تعد تسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس، يستريب في موضع الجزم، ويؤمن في موضع الشك. وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم، ولا يحب الصديق الناصح. رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا، والصالح محروماً شقياً لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك. رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد. رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية، والجواد تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات. رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق، ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة. رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه ". (ماذا خسر العالم:78،77).