أفلا يجد المروجون لمواقف ساسة الغرب الديمقراطي في تاريخ أمتهم شيئاً من مواقف النُّبْل المشرفة التي لم يُرِد بها مَن وقفها أيَّ دعاية انتخابية؟
والديمقراطية كغيرها من التيارات الأرضية لما كانت تعاني إشكالات مزمنة حار أطباؤها في علاجها، حتى تبرع بعض أنصارها - في المشرق الإسلامي - بحل نادر لها، وفق التصوير الآتي: علاج مشاكل الديمقراطية هو بالمزيد من الديمقراطية! فأضحى العلاج كعلاج صاحب الخمر الذي نُصِح بتركه، فأجاب بقوله:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
ولا يُعهَد في عرف العقلاء أن المشاكل تُحل بمزيد من المشاكل إلا وفق هذا المفهوم الأعوج الذي يُمثِّل حقيقة التيه التي تعانيها هذه التيارات الأرضية.
ومعلوم أن تطبيق أي مبدأ أو نظام كفيل ببيان حسنه من سوئه، والمعاناة التي يُغض الطرف عنها من آثار تطبيق الديمقراطية هي من أوضح الأدلة على بيان ما فيها من عوار آخذٍ في الازدياد بمضي الوقت، إلى أن يصل أنصارها يوماً ما إلى ما وصل إليه أنصار الاشتراكية الذين أقسموا جهد أيمانهم أن تيارهم سيعُمُّ الأرض كلها، وستجد البشرية فيه ما يحقق العدالة المطلقة التي تنشدها.
أما دين الإسلام فإن تطبيقه السليم قد أخضع المنصفين حتى من خصومه إلى الإقرار بأنه يمثل الرحمة الحقيقية التي جعلها الله لهذه البشرية، ولذا لم تزدد هذه الأمة بتطبيقه إلا عزة ومنعة، إلى أن دخلت الدواخل والرواسب على الأمة ورضي فئام من أبنائها باستبدال الذي هو أدنى - من تيارات الانحراف - بالذي هو خير، فتراكمت في الأمة مشاكل يجزم من كان له عقل يعي به الأمور أن مِن المحال أن ترتفع هذه المشاكل بغير الإسلام. وهنا تتضح المعادلة على حقيقتها بين الإسلام وبين الديمقراطية، فالإسلام إذا طُبِّق حُلَّت مشاكل الأمة، والديمقراطية إذا طبقت أفرز تطبيقها مشاكل تُحل بمثلها! - وفق مفهوم بعض أنصارها - فمن يستطيع من المنصفين أن يقارن حالاً كهذا بحال الإسلام حين يطبق؟ ولئن كانت الديمقراطية في المجتمعات الغربية حلماً منشوداً عقدوا عليه الآمال مدداً من حياتهم فما ذاك إلا لعدم وجود الإسلام بينهم، فلا غرابة أن يتنقلوا بين التيارات على مدى قرون متطاولة يترنحون بينها، فِعْل التائهين، أما من أكرمه الله بدين الإسلام فكيف يتطلع إلى تيارات التيه هذه، وكأنه لم يعرف تاريخ هذه الأمم التي أضحت هذه التيارات فيها بمثابة المَوْضات التي يتنقل بينها متابعوها، فتزدهر منها موضة في وقت، ثم تعود بالية قديمة، لوجود موضة أجَدّ منها في نظر من استحسنها.
ولئن كان التنقل بين هذه التيارات يستغرق فترات أطول من التنقل بين الموضات فما ذاك إلا لمد الآمال في كل تيار، رجاء أن ينجح، ولإعطائه مزيداً من الوقت، ليتمكن من تحقيق الأحلام المنشودة، وإن أردت البرهان على هذا فتأمل في كتابات لمع نجمها في القرن الماضي حول تيارات وأفكار اضمحلت لاحقاً، وقارِنْها بكتابات اليوم، لتجد مصداق هذا الكلام، بل إن من كُتِب له عمر بعد عدد من السنين لو طالع ما سيُكتب في وقته وقارنَه بما يُكتب اليوم لوجد أن المحصلة النهائية لهذه التيارات - مهما تباينت - واحدة ترتفع أسهمها في وقت ثم تظل تنحدر إلى أن تعلن الإفلاس، وتلك طبيعة هذه المبادئ الأرضية المبتورة عن النور الرباني الذي سماه الله تعالى مِنّةً في قوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وبعث به نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].