ألا يجدون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد - لا الديمقراطي - كان يقول لرعيته: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي، ليرفعها إلي حتى أقصّه منه)، وطبق ذلك على أحد ولاته حين ضرب رجلا مائة سوط ظلماً، فقال للذي ضُرِب: قم فاقتص منه، حتى اضطُرّ الوالي إلى أن يصطلح مع الرجل على أن يفتدي منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين، ولما قدمت رفقة من التجار ليلا فنزلوا المسجد قال - وهو أعظم حاكم في الأرض إذ ذاك - لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، فسمع عمر تلك الليلة بكاء صبي فتوجه لأمه، وقال: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم تكرر هذا منه أكثر من مرة، فلما كان في المرة الأخيرة قالت له: قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفُطُم، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، ثم أمر مناديا: «لا تُعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام» وكتب بذلك - لأجل هذا الموقف - إلى الآفاق، فصار العطاء في بيت المال لكل من وُلِد، بعد أن كان لمن تم فطامه، ولما تقرقر بطنه عام الرمادة - حين وقعت المجاعة وكان قد اقتصر على الزيت، دون السَّمن - قال قولته المشهورة: «تَقَرْقَرْ تقرقُرَكَ، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيى الناس». ولئن روَّج أنصار الديمقراطية لها، بدعوى أنها شديدة المحاسبة للمسؤولين في الغرب، من جهة أن كل مسؤول لا يستطيع أن يمتلك أكثر مما في رصيده قبل تعيينه، فليعلموا - رغم مافي هذه الدعوى من إشكال تبين بما تقدم - ليعلموا أن عمر رضي الله عنه قد سبقهم إلى هذا النوع من المحاسبة فكان إذا استعمل والياً كتب ماله، بل إنه أمر بعض ولاته فكتبوا أموالهم فشاطرهم أموالهم، فأخذ منهم نصفاً لبيت المال وأعطاهم نصفا، وبلغت به الأمور حدّاً رعى فيه حق الحيوان - فضلا عن الإنسان - حتى إنه كان مرة في سفر فعدل بمن معه إلى راعي غنم ليقول له: «إني قد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسؤول عن رعيته» وقال - وهو في المدينة كما هو معلوم -: «لو مات جَمَلٌ ضَياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه». (انظر لهذه الأخبار: طبقات ابن سعد 3 /،281، 286، 292، 294، 301، 305، 307، 313).
وبعد الخلفاء من الصحابة ألا يجدون في سيرة عمر بن عبد العزيز أن والياً كتب إليه: إنه رُفع لي رجل يسبك فهممت أن أضرب عنقه! فكتب إليه عمر: لو قتلته لأقدْتُك به، إنه لا يُقتل أحد بسَبّ أحد إلا من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، فاسبُبْه إن شئت أو خل سبيله. ولما كتب إليه وال آخر: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية كتب إليه عمر: إن الله قد بعث محمداً داعيا، ولم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطْوِ كتابك وأَقْبِل.
ولما دخل المسجد ليلاً عثر في رجل نائم فقال الرجل بجرأة وغضب: أمجنون أنت!؟ فقال الخليفة الحليم الوقور بكل سهولة: (لا)، فهمَّ الجندي بالرجل ليعاقبه، فزجره عمر قائلاً: مَهْ، إنما سألني أمجنون أنت فقلت: لا. (انظر أيضاً طبقات ابن سعد 5/ 369، 384، 402).
والأمثلة بحمد الله في تاريخ الأمة لا تحصى، تجدها في كل وقت يُطبَّق فيه شرع الله، كما ينبغي أن يطبق، بما تبين به لكل ذي إنصاف أن مجرد مقارنة الإسلام بغيره مما يصدق عليه قول الأول:
إذا أنت فضلت امرأً ذا براعة
على ناقص كان المديح من النقص