محمود بن محمد شاكر (ت:1418هـ)
نُشر عام 1356هـ الموافق 1940م
إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل، ولا تنثني، ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تُشْعِرُ العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه، ويتمنى أحدنا يومئذٍ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، عسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة.
وهذا العارض إذا ألمَّ جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟.
الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أنحائه حركة الروح العاملة - فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان.
وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَكٌ، وأشواك، وحطب، وكل ما لا نفع فيه إلا أذى وبلاءً عليه وعلى الناس.
وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم؛ فإن الفرد هو خلاصة الجماعة، وأصل الجماعة؛ فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه.
وعندئذٍ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة، والأماني الباطلة المكذوبة.
وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون؛ ليوقظوا الأحياء الذين ضُرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش.
أما اليوم الذي نحن فيه فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله؛ فهل يحق لنا أن نؤمل أنَّ هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يَلُمُّ ما تشعث من حياته؛ ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي نُصبت، فَعَبَدها من عَبَدَ ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا -على أوهامهم - إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟.
إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالًا واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل.
من أنا؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه - فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة، ولكن البحث عن الحقيقة هو أبدًا أروع شيء وأخوف شيء، فإن السائل شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق - فإن السؤال سوف ينزع به وينبُثُ عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصا المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمي جروحه، يتألم، ويتوجع، ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه.
فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها، ويكفها عن الشك والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ؛ فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة.
والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يَكِلُ كلَّ أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية.
فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية، فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة، وجراثيم التفاني والانقراض.
ليس لشرقيٍّ أو عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأتِ فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منَّا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يَتَدَارس في نفسه، وفي أهله، وفي عشيرته، وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد - حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟
والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟.
فالعالم، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والعامل، والصانع، وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم، ونوازعهم - يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدأون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد.
أما قيام الدعوة على البحث عن طريق الإصلاح، وأساليب الإصلاح، وتحقيق ذلك بالطرق العلمية ... إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئًا إلَّا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد، وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها.
إن الأمم لا يُصلحها مشروع، ولا أسلوب من الحكم، ولا باب من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً - بما فيه من الحركة النفسية - على أن الحياة التي يعيشها هي إثبات لوجوده، ولا يثبت الوجود للحي إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلاَّ أن تكون كل أفكاره متنبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟
فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم، وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور، والجهل، والغباء، والبلادة، وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه، وأجوده، وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل من أنا؟
فتجديد الحياة في الشرق حقيقة لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض.
وأما إذا انطلقنا مع أحلام النوم، وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مسوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت .. أي البلادة! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه.
إنَّ من الهراء أن تأتي مجلس قوم من المهندسين قد اختلفوا في الأرض، هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحوَّلوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته ... مما يصلح عليه البناء؛ فإن هؤلاء إذا بدأوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة فاعلم أنه لا فلاح لهم.
وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر.
فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف، والمنابذة، وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل.
وعندئذٍ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياةُ الحياةَ إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه، ومن وراء التاريخ.
إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ - وسنبدأ بإذن الله - فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا أن نضع الأسس العلمية، أو السياسية، أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها، وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟
إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صُوْرٍ جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المستعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن.
يومئذٍ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا؟ عملاً صامتاً لا يتكلم؛ لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة، والجهل، والخمول.