وأثرها في سيادة الأمم
محمد الخضر حسين (ت:1377هـ)
نُشر عام 1364هـ الموافق 1927م
الضَّيْم: الظلم والاضطهاد، وإباءته: كراهته والنفور منه.
والنفور الصادق من الضيم يستلزم الغضب عند وقوعه؛ كما قال مهيار الديلمي يمدح أبا سعيد بن عبد الرحيم:
نفى الضيمَ عنه أنفُ غضبانَ ثائرٍ ... يَخِفُّ وقِسْطُ الحادثات ثقيلُ
وإذا غضب الرجل من الضيم غضبة ملتهبة، بذل وسعه في التخلص منه، أو في التوقي منه قبل وقوعه، فمن لم يغضب لوقوع الضيم، أو لم يبذل وسعه في التخلص أو الحذر منه، فهو محروم من هذا الخلق المجيد.
ولهذا الخُلُق صلة محكمة بخلقين عظيمين: عزة النفس، والبطولة، فمن لم يكن عزيز النفس، لم يتألم من أن يضام، ومن لم يكن بطلًا، احتمل الضيم رهبة أو حرصًا على الحياة.
ومن طالع العرب في عهد جاهليتهم، عرف أنهم كانوا يأبون الضيم في حماسة وصلابة، ويعدُّونه في أول ما يفتخرون به من مكارم الأخلاق، وقد أخذ هذا الخُلُق في أشعارهم ومفاخراتهم مكانًا واسعًا، فنبهوا على أنَّ احتمال الضيم عجز، والعاجز لا يُرجَى لدفع مُلمَّة، ولا للنهوض بمهمة.
قال المتلمس:
ولا تقْبَلنْ ضيمًا مخافةَ مِيتةٍ ... وموتَنْ بها حرًّا وجِلدُك أمْلَسُ
وضربوا لاحتمال الضيم أبشع الأمثال، وأشدها تنفيرا منه، فقال المتلمس أيضا:
ولا يُقيم على ضيمٍ يُراد به ... إلَّا الأذلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتَدُ
هذا على الخَسْفِ مربوطٌ برُمَّتِه ... وذا يُشَجُّ فلا يَرثِي له أحدُ
ونبهوا على أن حرية النفس والإقامة على ضيم لا يجتمعان أبداً، فقال الشنفرى:
ولكنَّ نفسًا حرَّةً لا تُقيمُ بي ... على الضَّيْمِ إلا رَيْثما أتحوَّلُ
وأشاروا في حكمهم إلى أن ذوي النفوس الزكية يتجافون عن مواطن الضيم، وينأون عنها، ولو إلى مواقع الخطوب الدامية، قال معن بن أوس:
إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجَدْتَه ... على طَرَفِ الهجران إن كان يعقِلُ
ويركبُ حدَّ السَّيفِ مَن أنْ تُضيمَه ... إذا لم يكنْ عن شَفْرةِ السَّيفِ مَزْحَلُ
وإباءة العرب للضيم أيام جاهليتهم ملأت أعين الدول المجاورة لهم مهابة، فعاشوا ولم يكن لواحدة من تلك الدول عليهم من سبيل.
قال النعمان بن المنذر يصف العرب في محادثة له مع كسرى: (وأما عزها ومنعتها (يعني: العرب)، فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الملك، ولم يطمع فيهم (أي: العرب) طامع، ولم ينلهم نائل).
جاء الإسلام، فوجد العرب قد يتجاوزون في هذه الخصلة حدَّ الاعتدال، فهذَّبها، وأحاطها بحكمة حقَّقت فيها معنى ابتغاء العزة، وهيَّأتها لأن تلتقي بالعدل، وترافق الحلم، وتساير السياسة الرشيدة أينما سارت. ... هذَّب الإسلام إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقًا إسلاميًّا، أينما وجد الإيمان الصادق، وجدت إباءة الضيم بجانبه، ألا تقرؤون فيما تقرؤون من الكتاب المجيد قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً، فيطأطئ له رأسه خاضعًا، وإنما قتل في نفسه الشعور بالمهانة الحرص على الحياة، أو على شيء من متاعها، وكل متاعها في جانب العزة حقير.
يأبى الرجل الراسخ في مكارم الأخلاق أن يلحقه الضيم في نفسه، ويأبى بعد هذا أن يضام من يمتُّ إليه بصلة قرابة أو جوار أو استجارة؛ إذ اضطهاد أحد من أمثال هؤلاء يجرُّ إليه عارًا، ويلبسه صغارًا.
ورجل الأخلاق يغضب لأن يضام المنتمي إليه بصلة قرابة، وإذا كان هذا القريب ممن يناوئه، ويضمر له سوءًا، قال المغيرة بن حنباء:
وأغضبُ للمولَى فأمنعُ ضيمَه ... وإن كان غشًّا ما تَجِنُّ ضمائِرُه
يغار الرجل على ذوي القرابة والصداقة والجوار، ويبذل في إنقاذهم من الضيم دمه، أو ماله، أو جاهه، فيعظم بهذه المزية في أعين من يقدرون المكارم قدرها.
وأكبر أُباةِ الضيم همة، وأرقاهم في سماء السيادة مقامًا، من يغار على الأمة التي يجمع بينه وبينها دين أو وطن، ويأبى أن تمسها لفحة من ضيم، فيجاهد في سبيل سلامتها من أن يُهضَم حق من حقوقها، أو يُغتَصب شبر من أوطانها.
ويصور لك إباءة الرجل لأن يضام قومه قول عتبان الشيباني حين نزلت ثقيف متغلبة على أرض قومه:
فلا صُلحَ ما دامت منابرُ أرضِنا ... يقومُ عليها مِن ثَقيفَ خطيبُ
ودفع الضيم عن الأمة حق على كل من يستطيع الاشتراك فيه بنفس، أو مال، أو تدبير، أو تحريض.
وقد نص علماء الشريعة على أن العدو إذا أقبل مهاجمًا، كان فرضًا على كل شخص، حتى النساء أن يخرجوا لدفاعه بما استطاعوا.
ووقاية الأمة من مهانة الضيم تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية، ومعنوية.
أما المادية، فبإعداد ما يتطلبه الدفاع من وسائل الانتصار على العدو، وهذا ما أشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
وأما المعنوية، فبتربية النشء على خلق الشجاعة، وصرامة العزم، والاستهانة بالموت. فالأمة التي تأبى الضيم بحق، هي الأمة التي تلد أبطالًا، وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف، وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم، على قدر ما تلد من أبطال، وما تعده من أدوات الرمي والطعان:
متى تَجْمعِ القلبَ الذَّكِيَّ وصارِمًا ... وأنفًا حميًّا تجتنِبْك المظالمُ
إباءة الضيم خلق محمود أينما حلَّ، وأهم موقع له نفوس الرجال الموكول إليهم تدبير شؤون الأمة، وتنفيذ ما يحقق آمالها، وإنما تسقط الأمة في هاوية الاحتلال الأجنبي، إذا وقع زمام أمرها في يد من صغرت همته، فلا يغضب للضيم الذي يلقى على عنقه، ويسوق الأمة بعصاه إلى جهل وفقر وشقاق. ... ومن الحكمة أن يعمل الإنسان للتخلص من الضيم، بعد شيء من التدبر وإحكام الرأي، حتى لا تفضي به مكافحة الضيم الصغير إلى ضيم أفظع منه، أو تفوت على الجماعة مصلحة أو مصالح كبيرة، لا يعد ذلك الضيم في جانبها شيئاً مذكوراً، وأورد في بيان هذا مثلين:
أحدهما: من السيرة النبوية، وثانيهما: من التاريخ الصحيح.
أما السيرة، فقد جاء في قضية الحديبية: أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع المشركين صلحًا، قد يبدو في أول النظر أن فيه إجحافًا بحقوق المسلمين، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: (بلى). قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: (أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني).
ومن نظر في الفوائد التي ترتبت على هذا الصلح، وجدها من العظم بحيث لا يعد الصلح وقبول ما تمسك به المشركون من الشروط إلا شيئًا لا يقام له وزن، وعرف أن السياسة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوم سبيلًا مما بدا لعمر بن الخطاب في نظرته الأولى.
وأما التاريخ: فإن الإسبان لما طغوا على ملوك الطوائف بالأندلس، وشعر هؤلاء الملوك بضعفهم عن مقاومتهم، ظهر للمعتمد بن عباد ملك إشبيلية أن يستعين في دفاعهم بسلطان المغرب يوسف بن تاشفين، فقال له بعض أولئك الملوك: نخشى أن يدخل بلاد الأندلس، ويرد العدو، ثم يبسط سلطانه علينا، فقال المعتمد تلك المقالة الخالدة: (لأن أرعى الجمال خير من أن أرعى الخنازير!).