كنت قاعداً أفكر في موضوع أتحدث به إليكم (وأصعب شيء على المحدث اختيار الموضوع، لا سيّما إذا كان مثلي يحدث الناس من قديم، من أكثر من ربع قرن)، وإذا بي أسمع من رادّ الجيران أغنية: «أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر».
وأنا قديم الإعجاب بهذه القطعة؛ فهي من أروع ما قال أبو فراس، فانصرفت أتتبع الرادّ بسمعي، وإذا بي أنتبه إلى شيء عجيب في هذه القطعة لم أنتبه له من قبل: بيت فيها يوحي إلى سامعه بما يأباه الدين، ينكره الخلق الرفيع؛ لأن الدين والخلق يدفعان إلى الإيثار وحب الناس، وهذا البيت يدفع إلى الأثرة (أو الأنانية كما يقولون اليوم) وحب الذات، بل إن فيه أبشع صور الأنانية وأبعدها عن الخلق القويم، هو قوله: «إذا مت ظمآناً فلا نزل القَطْرُ».
انظروا كم بين قوله هذا وبين قول المعري:
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي ... سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا
أبو فراس ينحط إلى أدنى دركات الأثرة والأنانية؛ لا يرتفع درجة فيهتم بأهل أو ولد، ولا يرتفع درجة أخرى فيهتم ببلد أو وطن. إنه لا يبالي إلا بنفسه. فإذا مات عطشان فلينقطع المطر، وليحترق الزرع، ولتقفر الأرض،