والسبب الثاني: أنهم يخلطون بين "الغرابة في اللغة"، والغرابة في "البلاغة". فالغرابة في البلاغة يراد بها: الكلام الحوشي المستكره، أصواتاً ودلالة، على ما هو مذكور في كتب البلاغيين.

أما غرابة اللغة فهي شيء آخر. فالغريب من الكلام -كما ذكره أبو سليمان الخطابي (388 هـ): "وهو الغامض البعيد من الفهم، كالغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل ... ثم إن الغريب من الكلام يقال به على وجهين: أحدهما أن يراد به بعيد المعنى غامضة، لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر. والوجه الآخر أن يراد به كلام من بعدت الدار، ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هي كلام القوم وبيانهم، وعلى هذا ما جاء عن بعضهم، وقال لهم قائل: أسألك عن حرف من الغريب، فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه".

أقول: واللهم نعم: الغريب من كلام القوم، وعدم أنسنا له أو استعمالنا له، لا يخرجه عن دائرة كلام العرب، وعلى أن الاستعمال ليس بدليل على الحسن، كما يقول ضياء الدين بن الأثير.

ومعلوم أن كلام العرب على وجهين: واضح وغريب، ذكر هذا ونبه عليه واضع أول معجم عربي: الخليل بن أحمد الفراهيدي، قال في مقدمة كتاب العين: "بدأنا في مؤلفنا هذا بالعين، وهو أقصى الحروف، ونضم إليه ما بعده، حتى نستوعب كلام العرب: الواضح والغريب".

وهذا الغريب من كلام العرب قد يكون له ما يقابله من الواضح، فلك أن تعدل عن غريبه إلى واضحه، مع فقر في معجمك اللغوي، أنت مشؤول عنه ومؤاخذ به، عند تفاضل أقدار الكاتبين. وقد لا يكون له ما يقابله من الواضح، فلا معدى لك عن معرفته واستعماله، والجهل به حينئذ مزرٍ بصاحبه، ومضيق عليه سبل القول ومنادح الكلام، ولا يحس لذع هذا، ويستشعر المحنة فيه إلا الشعراء، من حيث هم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015