ويبغضوه إليهم بما أشاعوه عن حدته وبأسه وتعاليه، ونكص من نكص مسيئاً في نكوصه، وثبت من ثبت محسناً في ثباته.

ومع كل هذا الحصار الذي ضرب حول الأستاذ الإِمام فقد خلص إليه أهل العلم ومحبو المعرفة، ينهلون من هذا المنهل العذب، فكان بيته جامعة عربية ضخمة: طوائف من الناس من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، وسعهم هذا البيت المفتوح دائماً، ولم يفتح لهم يوماً دون يوم أو ساعة دون ساعة.

ولأبي فهر في البيان طريق معجب، وأسلوبه في الكتابة أسلوب عال، تحدر من سلالة كريمة، ومداره عى التذوق الذي واتاه بعد دربة طويلة متوارثة، انطلقت من الشعر الجاهلي الذي هو أنبل كلام العرب وأشرفه، ثم استقرت عند القرآن العظيم الذي هو البيان الإِلهي الملفوظ، وقد أفضى به ذلك إلى الإِحساس العميق باللفظ العربي في ترجيعه ونغمته: في الدلالة والألفاظ والتراكيب والصور. وأسلوب أبي فهر بعد ذلك أسلوب كاتب يحترم قارئه ويحبه ويؤنسه ويمتعه، ولا يتعالى عليه بالإِغماض، ولا يعنته بالرمز والإِشارة إلى ما لا تطوله يداه، ولا يستخف به بالثرثرة وفضول الكلام، ولو كان هذا الرجل قد خرج من الملالة والثورة المتفجرة في نفسه التي لا تهدأ، لأتى بكل عجيبة وغريبة، ولكن الله يثبط أقواماً ليرزق آخرين، على أن هذه الملالة التي حجزته عن كثرة التأليف والكتابة جاءت بخير كثير، فقد أخلت وجهه لطلاب المعرفة من الشرق والغرب.

وبعد، فيا أبا فهر:

لقد كنت في قوم عليك أشحة ... بنفسك إلا أن ما طاح طائح

يودون لو خاطوا عليك جلودهم ... ولا تدفع الموت النفوس الشحائح

رحمك الله رحمة واسعة سابغة، وجعل كل ما قدمته لأمتك ولعروبتك في موازينك يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحضراً.

* * *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015