من باب المعابثة والاستطالة بالذكاء، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن نحوكم أيها النحاة صنعة، ونحونا فطرة، وآية ذلك أن شعرهم الذي حمل سخريتهم من النحاة ليس فيه شيء خارج عن النظام النحوي، أو خارق لقواعده، وكأنها سخرية بالنحاة لا بالنحو.

ومع هذا المأثور عن الفرزدق من استخفافه بالنحاة وخروجه أحياناً قليلة عن النظام النحوي، فقد بقي جمهور شعره على الجادة النحوية، وظل مدداً ثريّاً للنحاة، ينتزعون منه شواهدهم في الدرس النحوي واللغوي والصرفي والصوتي.

وأما "ابن الراوندي" أحمد بن يحيى بن إسحاق (298 هـ) الفيلسوف المعروف، والزنديق المجاهر بالإِلحاد، فقد عرف عنه الطعن على النحويين، وذلك ما ذكره أبو حيان التوحيدي قال: "وأما قوله - يعني أبا حنيفة الصوفي -: فقد نقض على النحويين ابن الراوندي نحوهم، فإنه ذاهب بهذا القول عن وجه الرشد؟ لأن ابن الراوندي لا يلحن ولا يخطئ، لأنه متكلم بارع، وجهبذ ناقد، وبحاث جَدِل، ونظار صبور، ولكنه استطال باقتداره على علل النحويين، ورآها مفروضة بالتقريب، وموضوعة على التمثيل؟ لأنها تابعة للغة جيل من الأجيال، ومقترنة بلسان أمة من الأمم، فلم يكن للعقل فيها مجال إلا بمقدار الطاقة في إيضاح الأمثال وتصحيح الأقوال"، (البصائر والذخائر 1/ 181).

وهذا النص مهم جدا، وهو شاهد صريح على ما قلته أنا منذ أربع سنوات بمجلة الهلال، من أن الذين يهاجمون النحو قديماً لا يلحنون ولا يخطئون، وإنما هو الضيق بنحو الصنعة ليس غير، و "علل النحويين" التي ذكرها أبو حيان، إنما هي من أبرز نحو الصنعة، ومن التوافق العجيب أن هذا النص الشاهد لما قلته قد جاء فيه لفظ "الاستطالة" أيضاً، وقد استعملته أنا وصفاً لموقف الفرزدق من النحاة، واستعمله أبو حيان وصفاً لموقف ابن الراوندي من النحاة أيضاً.

وضح إذن أن النحو نحوان: نحو الصنعة، ونحو التراكيب، فالأول هو النظام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015