هكذا رأينا أن عصور الانحطاط التي شهدتها الآداب اليونانية في المرحلة الهلَِّينية أو السكندرية كانت مصحوبة بنشاط واسع لعلماء النحو والعروض، وكذلك في عصور الانحطاط التي شهدتها روما في القرن الرابع الميلادي، وكذلك في عصور الانحطاط التي شهدها الأدب العربي في العصر المملوكي، ففي ذلك العصر الذي تراجع فيه الشعر وتدهورت الكتابة ظهر ابن منظور وابن هشام".

هكذا قال الأستاذ حجازي، وقد قرأت كلامه هذا أكثر من مرة، وأعطيته حظه من النظر والتأمل، ثم قلَّبته ظهراً لبطن، والتمست لكاتبه المعذرة، فما استقام على وجه، ولا كشف عن جديد مما يكتبه الأستاذ حجازي، وما يكتبه غيره الآن عن النحو، هذا العلم الذي هو مِلاك العربية وقِوامها، والذي يقول عنه أبو العباس ثعلب أحد أئمة العربية في القرن الثالث: "لا يصح الشعر ولا الغريب ولا القرآن إلا بالنحو، النحو ميزان هذا كله"، (مجالس ثعلب ص 310).

وكان ينبغي على أبي العباس ثعلب أن يضيف: "ولا الفقه"، فقد قال أبو بكر الشنتريني من علماء القرن السادس: "ولقد رأيت جماعة من الفقهاء المتقدمين الذين لم يبلغوا درجة المجتهدين قد تكلموا في مسائل من الفقه فأخطأوا فيها، وليس ذلك لقصور افهماهم، ولا لقلَّة محفوظاتهم، ولكن لضعفهم في هذا العلم - يعني علم النحو - وعدم استقلالهم به"، تنبيه الألباب على فضائل الإِعراب ص 63.

كتاب سيبويه والقياس:

ورُوي أن أبا عمر الجرمي - من نحاة القرن الثالث - قال: " أنا مذ ثلاثون سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه"، فحدَّث ابن شُقَير بهذا الحديث المبرد، على سبيل التعجب والإِنكار! فقال المبرد: "أنا سمعت الجرمي يقول هذا - وأومأ بيديه إلى أذنيه - وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يُتعلَّم منه النظر والتفتيش"، (كتاب سيبويه 1/ 5)، وروى ياقوت هذا الخبر برواية أخرى، "قال الجرمي: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: أنا رجل مكثر من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015