قلبي يخشع وكياني يهتز، ودموعي تجري حين أقرأ - وأنا في الروضة الشريفة - تلك الآيات التي تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم وتناديه، فأقرأ وأتمثل وأستحضر وأنا بقرب النور وفي كرم الجوار، فأي جلال وأي جمال!
وما دخلت المسجد النبوي مرة إلا وقرأت سورة النساء، لأستحضر تلك الصورة الغالية الخاشعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مسعود يقرأ عليه سورة النساء وذلك ما رواه البخاري عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي»، قلت: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «نعم»، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41)} قال: «حسبك الآن». فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. صحيح البخاري (باب قول المقرئ للقارئ حسبك من كتاب فضائل القرآن) 6/ 241.
وهكذا تكون معرفة التفسير وأسباب النزول معينة على فهم القرآن وتدبره، فإذا انضم إلى ذلك معرفة غريبه ووجوه قراءاته ونحوه وإعرابه ومعانيه، كان ذلك أعون على معرفة أسراره والوقوف على دقائقه، ثم التلذذ بتلاوته، واستصغار لذائذ الدنيا كلها بجوار آية واحدة من آياته يتلوها المؤمن مستجمعاً لها فكره مخلياً لها قلبه، ولذلك يقول أحمد بن أبي الحوارى الصوفي المتوفى سنة 230: «إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء، من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟ أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم، فرحاً بما رزقوا ووقفوا». طبقات الصوفية للسلمي ص 102.
والقرآن مؤنس لتاليه، مزيل لوحشته، يقول الراغب الأصفهاني في مقدمة كتابه «حل متشابهات القرآن»: «فاتفقت خلوة سطوت على وحشتها بالقرآن، ولولا إنه لم يكن لي بها يدان .. وكانت هذه الخلوة خلوة عين لا خلوة قلب، واضطرار لا عن اختيار، بل لقهر وغلب». والظاهر أن المراد بهذه الخلوة السجن. مقدمة تحقيق كتاب المفردات في األفاظ القرآن ص 29.