وبخاصة في ديارنا المصرية، ففي ذلك الزمان كانت المخطوطات في مصر مصونة متاحة، وكان القائمون عليها والمتصرفون فيها أولى علم وبصر، يعرفون أسماء المخطوطات في كل علم وفن، كما يعرف الناس آباءهم، وكانت لديهم القدرة على قراءة العسر المعمى من المخطوطات، وتمييز الصحيح من الزائف، والعتيق من المحدث، إلى معارف أخرى تتصل بهذا العلم، كالمخطوط النادر، ومقاييس هذه الندرة: من خطوط المؤلفين أنفسهم، وحظوظ بعد الكتب من كثرة مخطوطاتها أو قلتها، ومعرفة مظان المخطوطات وأماكن وجودها. وقد ذهب هذا كله، إلا بقية خافتة الصوت ضعيفة الأثر.

ويشتد بي العجب - وقد قضيت مع هذا العلم خمسة وثلاثين عاماً: ناسخاً ومفهرساً ومحققاً ودارساً - حين أقرأ لبعض الناس الآن كلاماً أخاذاً براقاً عالي النبرة عن المخطوطات وسرقتها والغيرة عليها، مع يقيني الذي لا يداخله الشك أنهم لم يعانوا هذا العلم ولم يعرفوا شيئاً عن أسراره وخباياه، فضلاً عن أنهم لم يجالسوا شيوخه وأعلامه، وأساس العلم التلقي والمشافهة، فهي حماسة كاذبة، وولاء مدخول:

وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا

وهذا الحديث مما يطول جداً فلنتركه إلى حين، ولنعد إلى تركيا هذا الجزء العزيز من العالم الإسلامي، حديث المخطوطات فيها، وهو حديث غريب عجيب.

وقيل أن نتكلم على فضل الأتراك العثمانيين على هذا التراث الإسلامي، بجمعه وحفظه وصيانته، لا بد من التذكير بفضلهم في نشر الإسلام بأوروبا، لأن هذا من ذاك، ومعلوم أن كلمة «تركي» كانت في وقت من الأوقات مرادفة لكلمة «مسلم» في أذهان الأوروبيين الغربيين، وكان زحف الأتراك العثمانيين على بلاد البلقان وتوغلهم فيها، ثم اتجاههم إلى قلب أوروبا، ودخول محمد الفاتح القسطنينية وفتحا سنة 757 هـ = 1453 م، كان ذلك كله بمثابة الضربة الثانية للمسلمين في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015