على أن «للمقرئ» في تاريخنا التراثي معنى أوسع وأشمل من مجرد تحفيظ القرآن للصغار ومن فوقهم. فالمقرئ: هو ذلك العالم الذي يعرف القراءات القرآنية: رواية ودراية، بحيث يكون قادراً على جَمْع الطرق والروايات، ومعرفة وجوه الخلاف بين القراء، والاحتجاج للقراءات وتوجيهها من لغة العرب، ويكون أيضاً متقناً لطرق الأداء - وهو ما يُعرف الآن بعلم التجويد - ووقوف القرآن: الكافي منها والتام والحسن، ثم يتلقى الناس عنه ذلك كله مشافهة وسماعاً.
وقد نبغ في كل زمان ومكان من قاموا بهذا الأمر على خير وجه، فضلاً من الله وحياطة لكتابه وحفظاً له، ولم يكن لمصر على سواها من الدول العربية والإسلامية فضل وزيادة، فهو رزق الله المقسَّم على خلقه شرقاً وغرباً، ليتم وعده {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} [الحجر: 9]، {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 17]، لكن الأمر كاد يخلص لمصر في القرنين الأخيرين، فتربع قراؤها على عرش الإقراء والقراءة: رواية ودراية وجمال صوت، وصارت الرحلة إليهم من الشرق ومن الغرب، ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة ذكرتها في مقالتي عن «الشيخ مصطفى إسماعيل».
ويذكر التاريخ أسماء عظيمة لمعت في سماء مصر في القرنين الأخيرين، وخدمت كتاب الله إقراءً وتأليفاً. ومنهم الشيخ محمد أحمد المتولي المتوفى سنة 1313 هـ = 1895 م، والشيخ محمد مكي نصر المتوفى بعد سنة 1308 هـ، وهو صاحب أعظم كتاب في طرق الأداء وصفات الحروف ومخارجها «نهاية القول المفيد في علم التجويد»، والشيخ علي محمد الضبَّاع المتوفى سنة 1380 هـ = 1961 م.
ومن المعاصرين: الشيخ المقرئ العالم عبد الفتاح عبد الغني القاضي المتوفى سنة 1403 هـ = 1982 م، والشيخ إبراهيم علي شحاتة المقيم الآن بسمَنُّود، والشيخ أحمد عبد العزيز أحمد محمد الزيات، الأستاذ بكلية القرآن بالمدينة النبوية الآن، ويقال: إن الشيخ الزيات هو أعلى القراء الآن إسناداً (وعلو الإسناد معناه قلة