وفي هذه المقطوعة يقول:
ما كل قولي معروف لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وآخرين علي إعرابهم طُبِعُوا
فهذان البيتان شاهدان على ما قلته من نحو الصنعة ونحو الفطرة. والشاعر بطبعه مختال تيّاه، وحُق له!
وما أظن الذين تكلَّموا عن «سلطان النحاة» على الشعراء قد أخذوا كلامهم إلا من قصة الفرزدق مع عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: فقد سمع الفرزدق يقول:
وعَضُّ زمانٍ يا بن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتاً أو مُجَلَّفُ
فقال له: بِمَ رفعتَ «أو مجلفُ»؟ فقال: «بما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا». وهذا البيت مما استفاضت به كتب العربية، وأطال النحاة فيه الكلام. قال البغدادي صاحب الخزانة: «وهذا البيت صعب الإعراب». وقال الزمخشري: «هذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه»، وقال ابن قتيبة: «رفع الفرزدق آخر البيت ضرورة، وأتعب أهل الإعراب في طلب الحيلة، فقالوا وأكثروا، ولم يأتوا فيه بشيء يُرْتَضى، ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه».
وقال أبو فهر محمود محمد شاكر: «وبيت الفرزدق مما اشتجرت عليه ألسنة النحاة، ولكنه بقي مرفوعاً حيث هو».
ومن أقرب تخريجات النحاة وأولاها بالقبول ما ذكره الخليل بن أحمد، عبقري العربية قال: هو على المعنى، كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت، لأن معنى لم يبق ولم يَدَع واحد. ومثل ذلك قال أبو علي الفارسي، واستشهد للحمل على المعنى بشواهد أخرى.
وقد حكوا حكايات أخرى عن مخالفة الفرزدق لبعض قواعد النظام النحوي،