وهذه كلمات من نار في وجه حكم استبدادي لا يسمح بالمعارضة والنقد، وكيف إذا كانت هذه المعارضة في كتاب تداولته الأيدي ودخل كل بيت، وذاع وانتشر حتى يومنا هذا. وفي هذا الكتاب نجد أيضًا نقدًا مرًا يندد بسياسة الحكومة المالية في فصل عنوانه: "إدارات السلاطين وصلاتهم وما يحل منها وما يحرم" (?) تكلم فيه عن مصادر دخل السلاطين وطرق إنفاقهم والحلال والحرام من ذلك. وقد قرر في ذلك الفصل صراحة "أن أغلب أموال السلاطين حرام في هذه الأعصار والحلال في أيديهم معدوم أو عزيز" (?)، وعقد فصلًا آخر عن نوع العلاقات مع الأمراء وموظفي الحكومة الظالمة بيّن فيه أن الأحسن والأفضل "أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم"، مع تقليل الصلات بهم ما أمكن "وإن اعتزلهم حتى لا يراهم ولا يرونه كان ذلك هو الواجب" (?). وفي الجملة دعا إلى مقاطعة الحكومة الظالمة اقتصاديًا واجتماعيًا.
ولا شك أن هذه الدعوة قد أثرت في بعض أفراد المجتمع وبخاصة في أولئك الذين فيهم صلاح وتقوى، ولكن هؤلاء مهما كان عددهم كبيرًا إلا أنهم كانوا آحادًا وأفرادًا متفرقين وقد ينجح أحدهم في النجاة بنفسه من شرور الحكومة الظالمة، إلا أن ذلك لم يكن ليبلغ أن يكون حركة شعبية قوية، تهز عروش الحكام، بل كان أثر ذلك ضعيفًا ولم ينتج عنه أي نوع من التغيير السياسي. ولا يبدو أن الغزالي نفسه قد أراد من دعوته لهذه المقاطعة بلوغ هذا الهدف.
بالإضافة إلى هذين الأسلوبين في عمل الغزالي السياسي أسلوب توجيه النقد للحاكم في كتبه -والتحريض عليه وأسلوب المقاطعة فقد سلك الغزالي أسلوبًا ثالثًا، وهو كتابة الرسائل للملوك والوزراء كلما سنحت له فرصة وقد جاء في إحدى هذه الرسائل لأحد السلاطين:
"يا أسفا! إن رقاب المسلمين كادت تنقضّ بالمصائب والضرائب، ورقاب