العدل في الحكم، فلم تكن حكومته حكومة تسلط وجبروت تفرض سلطانها على الناس بقوة السلاح والإرهاب، ولم تكن حكومة بطش وظلم تتجسس على الناس وتأخذهم بالتهم والظنون. ونسوق هنا حادثتين تكفيان في الدلالة على سيادة هذا المبدأ على تصرفات الحكومة في عهد عمر.
قال يحيى الغساني:
"لما ولّاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقبًا، فكتبت إليه أعلمه حال البلد، وأسأله آخذ الناس بالظنّة وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة. فكتب إلي أن آخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله. قال يحيى: ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا" (?).
الحادثة الثانية تبين هذا الاتجاه في ولاية أخرى من ولايات الدولة:
كتب الجراح بن عبد الله الوالي على خراسان إلى عمر بن عبد العزيز: "إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك". فكتب إليه عمر: "أما بعد فقد بلغني كتابك، تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق فأبسط ذلك فيهم" (?).
والمبدأ الرابع من مبادئ الخلافة الراشدة هو السعي لإصلاح دين الرعايا وأخلاقهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت هذه المهمة قد تحولت إلى أيدي العلماء والفقهاء الذين أصبحوا يشكلون القيادة الدينية في الأمة، أما القيادة السياسية فقد كانت بأيدي الخلفاء والولاة وقواد الجيوش. وانفصال القيادة السياسية عن القيادة الدينية كان أثرًا من الآثار السيئة لتحول الحكم إلى ملك وراثي (?) منذ بداية العهد الأموي.