من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسُّنَّة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي.
ولا يختلف اثنان أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم. ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.
ففي القسم الثاني من الأحكام التي لم يكن مصدرها النص مباشرة، لم يجد الفقهاء صعوبة تذكر في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نص أصلًا يمكن أن تتغير وتصبح في حين من الأحيان مفسدة، أو أن العرف والعادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلًا، يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا بلا تحفظ أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عرفًا متصور عقلًا وواقع ملموس.
أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة. ذلك أن من المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال أن مصلحة ما عارضت النص. فالنص هو عدل كله ورحمة كله وحكمة كله ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان.
يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة:
"إذا ورد النص من القرآن أو السُّنَّة الثابتة في أمر ما على حكم ما. . . فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما