السُّنَّة التشريعية الملزمة (?).

وإذا تمعنا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها، إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي ترك للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام القرافي البحث عن ذلك في تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانًا للاختصاصات، وتوزيعًا للسلطات وحصرًا لما يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام القرافي بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة وهي الوظيفة التشريعية، لا تفارق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى حين يتصرف باعتباره رأس دولة أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحرب وكل ذلك من تصرفات الإمام (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده وكذلك أحكامه القضائية.

السُّنَّة تشريع كلها:

والخلاصة أن السُّنَّة تشريع كلها ما كان منها أقوالًا أو أفعالًا. يقول ابن تيمية: "إن جميع أقواله يستفاد منها شرع. . . ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب" (?). "وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له بعض الناس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق"؛ يعني: شفتيه الكريمتين" (?).

أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الجبلية التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015