وفي حقيقة الأمر إن في هذا النوع من أفعال الرسول نوعًا من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة، ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية (?).
ومن التأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية، يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها، تمامًا مثل الصفات الخلقية. فكما لا يتأسى بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفاته الخلقية في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره، ولا يقدر عليه حتى لو أراده.
وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأس ولا اقتداء فهو إطلاق صحيح. ومن قال أن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب. وعلى هذا فلابد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يوقع في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السُّنَّة غير التشريعية، لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد أن من سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه. أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السُّنَّة غير التشريعية، أنه تلك السُّنَّة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حرمة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون أن المباح من أقسام السُّنَّة، وهل ادعى أحد أن كل السُّنَّة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا