خَوفُ أُمِّي عليَّ مَنَ الذَّبْحِ لَمَا قَذَفَتْنِي في التَّابُوتِ في الماءِ، ولما صِرْتُ إلى قَصْرِكَ، ولَكَانَ أَبَوَايَ رَبَّيَانِي، ولَمَا كُنتُ بِحَاجَةٍ إِلى تَرْبِيَتِكَ لِي. فَلَيْسَتْ نِعْمَتُكَ عَلَيَّ، وتَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ بِشَيْءٍ يُقَاسُ بالنِّسْبَةِ ألى ما فَعَلْتَهُ أنْتَ بِبَني إسرائيل. (?)
فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟! (?)
ولم يكن بنو إسرائيل رقيقاً لفرعون، بل كانوا أحراراً غير أنهم لما كانوا خاضعين لحكمه مستسلمين لظلمه صدق عليهم أنهم عبيد لا أحرار، بل جعل الإسلام هذه الحرية المعنوية من أصول الدين وقطعياته، فلا عبودية إلا لله ولا سيادة إلا لله ولا طاعة إلا لله ولا خضوع ولا تذلل إلا له وحده، بينما جعل العبودية الصورية الشكلية وهي الاسترقاق من فروع الأحكام الفقهية وذلك لعظم خطر الحرية المعنوية وشدة أثرها على النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية، ولهذا كانت عناية القرآن بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية المعنوية لغير الله كالخشية والخوف والرغبة والرهبة والطاعة والتذلل والخضوع أشد من عنايته بالحرية الصورية التي يفتقدها الرقيق، إذ هذه فرع وتلك أصل، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
فتحرير الإنسان من العبودية والخضوع والتذلل لغير الله من أصول الدين، بل أشرف غاياته وهو أساس التوحيد الذي جاء الرسل لتحقيقه، أما تحريره من الرق فمن فروع الدين من أجل كمال التوحيد، حتى تكون عبودية الإنسان خالصة لله في المعنى والصورة. ولا تكون كذلك حتى تزول كل أشكال عبودية الإنسان للإنسان وتزول كل سيادة للإنسان على أخيه الإنسان فلا سيد إلا الله وحده، والخلق أحرار مع من سواه وكلما ارتفعوا في مقام العبودية لله اتسعت دائرة الحرية فيما بينهم.