فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به.
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه، ولذا ذكر الفقهاء أنه يُشرع الحَجْر على المتطبب الجاهل (?)، فكذلك غير الطب يُمنع مَنْ لم يكن مؤهلاً من إبداء رأيه؛ إذ لا يوثق برأيه.
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف، لكن ليس له أن يصف العلاج المركَّب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً.
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم بالشرع فقط .. وهكذا.
والسبب في هذا أن الرأي المعتبر هو المبني على العلم والتثبت، وأما ما لم يُبن عليهما فهو محض ظن لا يغني عن الحق شيئاً، ومعلوم أن للخيالات والأوهام رواداً لا يعبأ بهم في مجال الفكر، ومن هنا كان أهل العلم لا يعتبرون بكل خلاف حتى قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظر (?)
وإذا أريد قياس الرأي ومعرفة مكانته استند الناظر إلى ما استمد منه؛ هل هو العلم والتثبت، أو بني على المصالح الشخصية والعصبيات الجاهلية ومحض الهوى؟
وقد قرر أهل العلم أدلة يُبنى عليها الحكم الشرعي، وطرقاً للاستدلال والترجيح فيها توصّل للمطلوب، وإذا راعى أهل العلم ذلك في الأحكام الشرعية؛ فهو تنبيه على اعتبار المنهج نفسه في سائر معمولات الذهن، فلا بد أن تُبنى على دليل معتبر، ولا بد من مراعاة طرق الترجيح بين الآراء.
وكما يُشترط لإبداء الرأي: القدرة على ذلك، والتأهل له، واستناده على ما يعضده؛ فإنه يُشترط فيه أيضاً: إرادة الحق والخير، وهذا من معنى الإخلاص وحسن الإرادة التي هي مناط خيريّة العمل وصلاحه وقبوله.