قال الشاطبي: الِاجْتِهَادُ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ اضْطَلَعُوا1 بِمَعْرِفَةِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَالثَّانِي: غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ وَهُوَ الصَّادِرُ عَمَّنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِمَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ رَأْيٌ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ، وَخَبْطٌ فِي عِمَايَةٍ، وَاتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، فَكُلُّ رَأْيٍ صَدَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا مِرْيَةَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} [الْمَائِدَةِ: 49].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} الْآيَةَ [ص: 26]. (?).

وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو في كل علم، فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير إتقان له.

وقد ذم الله - تعالى - من يتبع الظن: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 36]. وجعل طاعة من يتبع الظن ضلالاً: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

فلا بُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه، وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد.

والله - تعالى - أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به.

ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما يُسْتشارون فيه، وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلَاةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَفِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فيما يتعلق بالحرب، وجوه والناس فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلَادِ وَعِمَارَتِهَا. (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015