وإذا كانت العبودية تناقض الحرية، فالقرآن إذاً جاء لتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وذلك بإخلاص التوحيد الذي هو الحرية لله وحده، وقد قالت أم مريم: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]،أي موحداً ومخلصاً لك في طاعته وعبوديته ووحدانيته، وإنما أرادت أن تجعل المولود خادماً في المعبد، لا يخدم أحداً ولا يشتغل بطاعة أحد ولا يخضع لجلال أحد من البشر، بل يقصر طاعته لله فقالت"محرراً"،فجعلت التحرير نظير التوحيد، فالحرية هنا تعني التوحيد الخالص لله.

ومما يرسخ مفهوم الحرية الإنسانية الذي جاء به القرآن قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]،والدين هنا بمعنى الطاعة والخضوع، فلا إكراه في طاعة الله وعبادته في الإسلام، بل الطاعة قائمة على أساس الحرية لا الإكراه، وإذا كان الله -جل جلاله- لم يرض من عباده أن يطيعوه أو يعبدوه أو يوحدوه كرهاً فكيف يسوغ للملوك والرؤساء أن يجبروا الناس على طاعتهم والخضوع لسلطانهم بالإكراه ودون رضاهم؟!

بل ويتسع مفهوم التوحيد الذي جاء به القرآن ليشمل تحرير الإنسان حتى من الخوف من غير الله كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فشرط لتحقيق الإيمان عدم الخوف من البشر ومن كل ما سوى الله كما قال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]،وهو كقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].

فكما لا تكون العبادة إلا لله وحده، فكذلك لا يكون الخوف والرهبة والخشية إلا منه وحده لأنه هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت فاستحق وحده الخضوع والخشية والرهبة والرغبة والعبادة والطاعة، بل لقد بالغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترسيخ مفهوم تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله، حتى نهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم كما يفعل العبيد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015