أتى أمر اللّه المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون. اللّه الذي لا يدع الناس إلى ضلالهم وأوهامهم إنما هو ينزل عليهم من السماء ما يحييهم وينجيهم: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» .. وهذا أولى نعمه وكبراها. فهو لا ينزل من السماء ماء يحيي الأرض والأجسام وحدها - كما سيجيء- إنما ينزل الملائكة بالروح من أمره. وللتعبير بالروح ظله ومعناه. فهو حياة ومبعث حياة: حياة في النفوس والضمائر والعقول والمشاعر. وحياة في المجتمع تحفظه من الفساد والتحلل والانهيار. وهو أول ما ينزله اللّه من السماء للناس، وأول النعم التي يمن اللّه بها على العباد. تنزل به الملائكة أطهر خلق اللّه على المختارين من عباده - الأنبياء - خلاصته وفحواه: «أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.»
إنها الوحدانية في الألوهية. روح العقيدة. وحياة النفس. ومفرق الطريق بين الاتجاه المحيي والاتجاه المدمر. فالنفس التي لا توحد المعبود نفس حائرة هالكة تتجاذبها السبل وتخايل لها الأوهام وتمزقها التصورات المتناقضة، وتناوشها الوساوس، فلا تنطلق مجتمعة لهدف من الأهداف! والتعبير بالروح يشمل هذه المعاني كلها ويشير إليها في مطلع السورة المشتملة على شتى النعم، فيصدر بها نعمه جميعا وهي النعمة الكبرى التي لا قيمة لغيرها بدونها ولا تحسن النفس البشرية الانتفاع بنعم الأرض كلها إن لم توهب نعمة العقيدة التي تحييها.
ويفرد الإنذار، فيجعله فحوى الوحي والرسالة، لأن معظم سياق السورة يدور حول المكذبين والمشركين والجاحدين لنعمة اللّه، والمحرمين ما أحله اللّه، والناقضين لعهد اللّه، والمرتدين عن الإيمان ومن ثم يكون إظهار الإنذار أليق في هذا السياق. وتكون الدعوة إلى التقوى والحذر والخوف أولى في هذا المقام. (?)
وفى قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تقرير لحقيقة واقعة، وهى أن أمر اللّه، وهو انتقال الناس من دار الفناء إلى دار البقاء ـ قد أتى فعلا منذ كان للناس حياة على هذه الأرض .. فلم يستعجلون أمر اللّه فيهم، وهو موجود بينهم، عامل فيهم؟ إن