وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشامية، وبلاد الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كل حظ تفيض يده في أمواله، ويركب في حشد من رجاله؛ ويصبح وهو في كل جانب من جوانب ملكنا كالطليعة في تقدم مكانها، وكالربيئة في إسهار أجفانها. فليتسلم ذلك بيد معظم قدرا، ولا يستكثر كثرا، ويحمل منها رفدها غيثا أو بحرا؛ كذلك فليعدل في الرعيّة الذين هم عنده ودائع، وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع، فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلا، ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلا، وإذا حملوا ثقلا لا يجدون حمله ثقيلا.
وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرشوة، وهى سحت أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنبذه، ونهى عن أخذه، وعن الرغبة في تداوله، وهو كأخذ الربا الذى قرنت اللعنة بمؤكله وآكله.
وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولأعضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرق إليها النفاد، فينبغى أن يعول فيهم على الواحد دون الإثنين، وأن يستعان منهم في الفصل بذى الأيدى، وفى اليقظة بذى اليدين، ومن رام هذا المنصب سائلا فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه، وليعرف أنه ممن رام أمرا فأخطأ الطريق في استجلاب مرامه، وأمر الحكام لا يتولاه من سأله، وإنما يتولاه من غفل عنه وأغفله.
وإذا قضينا حق الله في هذه الوصايا فلنعطقها على ما يكون لها تابعا، ولقواعد الملك رافعا، وذاك أن البلاد التي أضفناها إليك: فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل [ذات] حصانة مانعة، وكلها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره، فولّ وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها،