وهؤلاء قابلوا مَن قبلهم من القَدَرِيَّة والمعتزلة أعظمَ مقابلة؛ فهما طرفا نقيضٍ لا يلتقيان.
والطَّريق الرَّابع: طريقُ أهل العلم والإيمان الذين عقلُوا عن الله أمرَه ودينَه، وعرفوا مرادَه بما أمرهم ونهاهم عنه، وهي أنَّ نفسَ معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرُّب إليه (?) وابتغاء الوسيلة إليه أمرٌ مقصودٌ لذاته، وأنَّ الله سبحانه يستحقُه لذاته، وهو سبحانه المحبوبُ لذاته، الذي لا تصلُح العبادةُ والمحبةُ والذُّلُّ والخضوعُ والتَّألُّه إلا له؛ فهو يستحقُّ ذلك لأنه أهلٌ أن يُعْبَد ولو لم يخلُق جنَّةً ولا نارًا، ولو لم يَضَع ثوابًا ولا عقابًا، كما جاء في بعض الآثار: "لو لم أخلُق جنَّةً ولا نارًا، أما كنتُ أهلًا أن أُعْبَد؟ " (?).
فهو سبحانه يستحقُّ غاية الحبِّ والطَّاعة والثَّناء والمجد والتَّعظيم؛ لذاته، ولما له من أوصاف الكمال ونُعوت الجلال.
وحبُّه والرِّضا به وعنه والذُّلُّ له والخضوعُ والتَّعبُّدُ هو غاية سعادة النَّفس وكمالها، والنَفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقدَ روحَه وحياتَه، والعين التي فقدت ضوءها ونورَها، بل أسوأ حالًا من ذلك مِنْ وجهين:
أحدهما: أنَّ غاية الجسد إذا فقدَ روحَه أن يصيرَ معطَّلًا ميتًا، وكذلك العينُ تصيرُ معطَّلة، وأمَّا النَّفس إذا فقدت كمالهَا المذكورَ فإنها تبقى معذَّبةً متألِّمة، وكلَّما اشتدَّ حجابُها اشتدَّ عذابُها وألمُها، وشاهدُ هذا ما يجدُه المُحِبُّ الصادقُ المحبةِ من العذاب والألم عند احتجاب محبوبه عنه، ولا