فيقال: يا عجبًا لعقلٍ يَرُوجُ عليه مثلُ هذا الكلام، ويبني عليه مثلَ هذه القاعدة العظيمة! وذلك بناءٌ على شَفَا جُرُفٍ هار.

وقد تقدَّم ما يكفي في بطلان هذا الكلام، ونزيدُ هاهنا أنه كلامٌ فاسدٌ لفظًا ومعنًى؛ فإنَّ الاستنباط هو استخراجُ الشيء الثَّابت الخفيِّ الذي لا يَعْثُر عليه كلُّ أحد، ومنه: استنباطُ الماء؛ وهو استخراجُه من موضعه، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، أي: يستخرجون حقيقتَه وتدبيرَه بفطنتهم وذكائهم وإيمانهم ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف.

ولا يصحُّ معنًى إلا في شيءٍ ثابتٍ له حقيقةٌ خفيَّةٌ يستنبطُها الذِّهنُ ويستخرجُها، فأمَّا ما لا حقيقة له فإنه مجرَّدٌ ذِهنيٌّ (?)، فلا استنباط فيه بوجه، وأيُّ شيءٍ يُسْتَنْبَطُ منه؟ ! وإنما هو تقديرٌ وفَرْض، وهذا لا يسمَّى استنباطًا في عقلٍ ولا لغة.

وحينئذٍ، فيُقلَبُ الكلامُ عليكم، ويكون من يَقْلِبُه أسعدَ بالحقِّ منكم، فنقول: وليس معنى قولنا: "إنَّ العقلَ استنبط من تلك الأفعال" أنَّ ذلك مجرَّدُ خواطرَ طارئة، وإنما معناه أنها كانت موجودةً في الأفعال، فاستخرجَها العقلُ باستنباطِه، كما يُسْتَخْرَجُ الماءُ الموجودُ في الأرض باستنباطِه. ومعلومٌ أنَّ هذا هو المعقولُ المُطابِقُ للعقل واللُّغة، وما ذكرتموه فخارج عن العقل واللغة جميعًا.

فعُرِفَ أنه لا يصحُّ معنى الاستنباط إلا لشيءٍ موجودٍ يستخرجُه العقل،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015