وهذا كحال رجل سائرٍ على طريقٍ قد كَمَنت الأعداءُ في جَنَباته، وخلفه وأمامه، وهو لا يشعرُ بها (?)، فإذا أصيب منها مرةً بمصيبةٍ استعدَّ في سيره، وأخذ أُهْبَةَ عدوِّه، وأعدَّ له ما يدفعُه به. ولولا أنه ذاق ألم إغارة عدوِّه عليه وتبييته له لما سمحت نفسُه بالاستعداد والحذر وأخذ العُدَّة.
فمِن تمام نعمة الله على آدم وذريَّته أنْ أراهم ما فعَل العدوُّ بهم وبأبيهم فاستعدُّوا له وأخذوا أُهْبتَه.
فإن قيل: كان من الممكن أن لا يسلِّط عليهم العدوَّ.
قيل: قد تقدَّم أنه سبحانه خلق آدمَ وذريَّته على بِنْيةٍ وتركيبٍ مستلزمٍ لمخالطتهم لعدوِّهم وابتلائهم به، ولو شاء لخلقَهم كالملائكة الذين هم عقولٌ بلا شهوات (?)، فلم يكن لعدوِّهم طريقٌ إليهم، ولكن لو خُلِقوا هكذا لكانوا خلقًا آخرَ غيرَ بني آدم؛ فإنَّ بني آدم قد رُكِّبوا على العقل والشَّهوة.
* وأيضًا؛ فإنه لما كانت محبةُ الله وحده هي غاية كمال العبد وسعادته التي لا كمال له ولا سعادة بدونها أصلًا، وكانت المحبةُ الصادقةُ إنما تتحقَّقُ (?) بإيثار المحبوب على غيره من محبوبات النفوس، واحتمال أعظم المشاقِّ في طاعته ومرضاته، فبهذا تتحقَّق المحبةُ ويُعْلَمُ ثبوتهُا في القلب = اقتضت حكمتُه سبحانه إخراجَهم إلى هذه الدَّار المحفوفة بالشهوات ومحابِّ النفوس، التي بإيثار المحبوب (?) الحقِّ عليها والإعراض عنها