وكفى بهذا فسادًا وبطلانًا، وكفى بردِّ العقول وسائر العقلاء له، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

الوجه الثَّالث والعشرون: قولكم: "إنَّ المَلِك العظيمَ إذا رأى مسكينًا مُشْرِفًا على الهلاك اسْتَحْسَنَ إنقاذَه، والسَّببُ في ذلك دفعُ الأذى الذي يَلْحَقُ الإنسانَ مِنْ رِقِّة الجنسية، وهو طبعٌ يستحيلُ الانفكاكُ عنه ... " (?) إلى آخره = كلامٌ في غاية الفساد.

فإنَّ مضمونه أنَّ هذا الإحسانَ العظيمَ والتَّنزُّل مِنْ مثل هذا الملك القادر إلى الإحسان إلى مجهُودٍ مَضرورٍ قد مسَّه الضُّرُّ، وتقطَّعت به الأسباب، وانقطعت به الحِيَل = ليس فعلًا حسنًا في نفسه، ولا فرق عند العقل بين ذلك وبين أن يُلقِي عليه حجرًا يُغْرِقُه، وإنما مال إليه طبعُه لرقَّة الجنسيَّة، ولتصويره نفسَه في تلك الحال واحتياجه إلى من يُنْقِذُه، وإلا فلو جرَّدنا النَّظرَ إلى ذات الفعل، وضَرَبنا صفحًا عن لوازمه وما يقترنُ به ويبعث عليه، لم يَقْضِ العقلُ بحُسنه، ولم يفرِّق بينه وبين إلقاء حجرٍ عليه حتَّى يُغْرِقَه! !

فهذا قولٌ يكفي في فساده مجرَّدُ تصوُّره، وليس في المقدِّمات البديهيَّة ما هو أجلى وأوضحُ من كون مثل هذا الفعل حسنًا لذاته حتَّى يُحْتَجَّ بها عليه؛ فإنَّ الاحتجاج إنما يكونُ بالأوضح على الأخفى، فإذا كان المطلوبُ المستَدلُّ عليه أوضحَ من الدَّليل كان الاستدلالُ عناءً وكُلْفَة، ولكنْ تُصَوَّرُ الدَّعوى ومُقابِلتُها تصويرًا مجرَّدًا، ويُعْرَضان على العقول التي لم يَسْبِق إليها تقليدُ الآراء، ولم يتواطأ عليها ويتلقَّاها صاغرٌ عن كابر، وولدٌ عن والد، حتَّى نَشَأت معها بنشوئها، فهي تسعى في نُصرتها بما دَبَّ ودَرَجَ من الأدلَّة؛

طور بواسطة نورين ميديا © 2015