وقال آخر ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقال آخر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.
وقال آخر: من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في الآخرة فلا يؤتاه.
وقال آخر يوصي أخًا له: يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى بها الموت فلا يوجد.
وقال آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كان أمرًا مقدرًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عن دار الغرور، والاستعداد والإنابة إلى دار الخلود، والتفكر والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها، فإن كان سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كانت الأخرى كنت مأجورًا مع النية الصالحة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره. قال الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] . فأي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغفلة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك من ولد أو أهل أو مال أو غير ذلك، فتعلم علمًا لا يشوبه شك أنك مفارقة إما في الحياة أو في الممات، وهذه سنة الله الجارية في خلقه وحكمه المطرد.
وتُشعْر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.