وهو وفاق الشافعي على أنَّ الشرابين واحد، لكن لا في الحرمة بل في الحل. فهو مع أبي حنيفة في تحليل النبيذ غير المسكّر، ومع الشافعيّ في أن المسكر والخمر مثل النبيذ، ومخالف له في حرمة المثلَّث؛ فيقول: مِثْله، لكن في الحل؛ والشافعي رضي اللَّه تعالى عنه يقول: مِثْله لكن في الحرمة. فهذا أبو نواس لم يقصد إلَّا نوعًا من المجون الذي لم يخلُ عنه الأدباء؛ ولكن المجون في هذا الباب قبيح جدًا؛ لأنَّه تلاعب بدين اللَّه تعالى.
ومنهم طائفةٌ تصلَّبت في أمر دينها؛ فجزاها اللَّه تعالى خيرًا: تنكر المنكر وتشدَّد فيه، وتأخذ بالأغلظ، وتتوقَّى مظانّ التهم؛ غير أنها تبالغ، فلا تذكر لضعفة الإيمان من الأمراء والعوائم إلَّا أغلظ المذاهب، فيؤدِّي ذلك إلى عدم انقيادهم وسرعة نفورهم.
فمن حق هذه الطائفة الملاطفة، وتسهيلِ ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير إذا كان الشرع قد جعلَ لتسهيله طريقًا؛ كما أنَّ من حقها التشديد فيما ترى أنَّ في تسهيله ما يؤدِّي إلى ارتكاب شيء من محرَّمات اللَّه تعالى. فقد روي أنَّ سائلًا جاء إلى عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، فسأله: هل للقاتل توبة؟ فقال: لا توبة له. وسأله آخر، فقال: له توبة. فسئل ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن ذلك، فقال: أمَّا الأوَّل فرأيت في عينيه إرادة القتل، فمنعته. وأمَّا الثاني فجاء مستكينًا قد قَتَل فلم أقنّطه، قلحط: ومن ثمَّ قال الصيمريّ: إنْ سأله سائل، فقال: إن قتلت عبدي فهل عليَّ قصاص؟ فواسع أن يقول: إن قتلتَه قتلناك؛ فعن النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قتل عبده قتلناه" ولأن القتل له معانٍ. وهذا كله إذا لم يترتَّب على إطلاقه مفسدة.
ومنهم من يتسرَّع إلى الفتيا معتمِدًا على ظواهر الألفاظ، غير متأمِّل فيها؛ فيوقع الخلق في جهل عظيم، ويقع هو في ألمٍ كبير، ربَّما أداه ذلك إلى إراقة الدماء بغير حقٍّ. وأنا أذكر أمثلة ممَّا تصلح للإلغاز، منبّهًا بها على أخواتها. فمنها ما حَكي أنَّ شخصًا أحبَّ الاجتماع بالمأمون أمير المؤمنين، فأعياهُ السعي في ذلك، ولم يصل إليه. فقام في ملأٍ من الناس، وقال: أيُّها الناس، اثبتوا عليَّ؛ فلست بسائل. اعلموا أنَّ عندي ما ليس عند اللَّه، ولي ما ليس للَّه، ومعي