إليهم. وإنَّا لا نؤاخذ أحدًا إلَّا بجريمة ظاهرة، ومتى أمكننا تأويلُ كلامهم، وحمله على محمل حسن لا نعدل عن ذلك؛ لا سيّما من عرفناه منهم بالخير، ولزومُ الطريقة. ثم إنْ بدرت لفظة من غلطة، أو سقطة، فإنها عندنا لا تهدم ما مضى وهذه الطائفة من الفقهاء، التي تنكر على المتصوِّفة، مَثلُها مَثَل الطائفة من الترك، التي تنكر على الفقهاء. وقد جرَّبنا فلم نجد فقيهًا ينكر على الصوفية، إلَّا ويهلكه اللَّه تعالى، وتكون عاقبته وخيمة، ولا وجدنا تركيًّا يهزأُ بالفقهاء إلَّا ويُهلكه اللَّه تعالى، وتكون عاقبته شديدة. فسبيل هذه الطائفة التوبة إلى اللَّه تعالى، وحُسْن الظنِّ بخلق اللَّه تعالى؛ لا سيّما من انقطع إلى اللَّه، واعتكف على عبادته، ورفض الدنيا وراء ظهره. هذا علاج داء هذه الطائفة، وما أظنَّهم يبرؤُون؛ فإنِّي جرَّبت فوجدت القلوِب منقسمة إلى قابل للصلاح وطريق الفقر وذلك تراه منقادًا لطريق الفقراء معتقدًا من غير تعليم -وغير قابلة، ولا تراها تناقد؛ وإن انقادت في الظاهر لم يفدها الانقياد؛ لأنَّ هؤلاء القوم لا يعاملون بالظواهر ولا يفيد معهم إلا الباطن ومحض الصفاء؛ وهم أهل اللَّه تعالى، وخاصَّته نفعنا اللَّه بهم. وأكثر من يقع فيهم لا يفلح.
ومن أهل العلم طائفةٌ طلبت الحديث، وجعلت دَأْبَها السماع على المشايخ، ومعرفةَ العالي من المسموع؛ والنازل. وهؤلاء هم المحدِّثون على الحقيقة؛ إلَّا أنَّ كثيرًا منهم يُجهِد نفسه في تهجِّي الأسماء والمتون، وكثرة السماع من غير فهم لما يقرؤه، ولا تتعلَّق فكرته بأكثر من أنِّي حصَّلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخًا، جزء الأنصاري عن كذا كذا شيخًا، جزء ابن الفيل، جزء البطاقة، نسخة أبي مُسْهِر وأنحاء ذلك. وإنَّما كان السلف يسمعون فيعون فيرحلون فيقرؤون فيحفظون فيعلمون. ورأيتُ من كلام شيخنا الذهبيّ في وصيَّته لبعض المحدِّثين في هذه الطائفة: ما حظَّ واحد من هؤلاء إلَّا أن يسمع ليروي فقط. فَليُعاقَبنَّ بنقيض قصده، وليشهرنَّه اللَّه تعالى بعد أن ستره مرات، وليبقين مضغة في الألسن، وعبرة بين المحدِّثين، ثم لَيَطْبَعَنَّ اللَّه على قلبه. ثم قال: فهل يكون طالب من طلاب السنَّة يتهاون بالصَّلوات، أو يتعانى تلك القاذرورات! وأنحس منه محدِّث يكذب في حديثه، ويختلق الفُشَار. فإنْ ترقَّت همته الفتيَّة إلى الكذب في النقل والتزوير في الطّبَاق، فقد استراح. وإن تعانى