والمتكلِّم، والنحويُّ وغيرهم، وتتشعَّب كل فرقة من هؤلاء شعوبًا وقبائل. ويجمع الكلَّ أنَّه حقٌّ عليهم إرشاد المتعلمين، وإفتاء المستفتين، ونصح الطالبين، وإظهار العلم للسائلين؛ فمن كتم علمًا ألجمه اللَّه بلجام من نار، وألّا يصدوا بالعلم الرئاء والمتاهاة والسمعة، ولا جعله سبيلًا إلى الدنيا؛ فإن الدنيا أقلُّ من ذلك. قال: الفَضيْل رحمه اللَّه: إنِّي لأرحم ثلاثة: عزيز قومٍ ذلَّ، وغنيًا افتقر، وعالمًا تلعَّبُ به الدنيا. وأنشد بعضهم:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب!
فأقلّ درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخسّتها، وكدورتها وانصرامها، وعِظَمَ الآخرة وصفاءها ودوامَها، وأن يعلم أنهما متضادّتان، وأنهما ضرَّتان؛ متى أرضيت واحدة أسخطت الأخرى، وكِفَّتا ميزان؛ متى رَجحت إحداهما خفَّت الأخرى، وكالمشرق والمغرب؛ متى قَرُبت من أحدهما بَعُدت عن الآخر، وكَقَدحين أحدهما مملوءٌ فبقدر ما تصبُّ منه في الآخر تفرغ من هذا فمن لا يعلم حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذَّاتها بالهموم فاسد العقل؛ فإنَّ المشاهدة والتجربة ترشد العقلاء إلى ذلك، فكيف يكون في العلماء من لا عقل له! ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر لا إيمان له، فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له! ومن لا يعلم أنهما ضَرتان والجمعُ بينهما بعيد فهو جاهل. ومن علم هذا كلَّه، ثم آثرَ الحياة الدنيا علي الآخرة فهو أسير الشيطان؛ قد أهلكته شهوته، وغلبت عليه شِقوته، فكيف يعدُّ من العلماء من هذه درجته. ووَحق الحقِّ إنِّي لأعجب من عالم يجعل علمه سبيلًا إلى حطام الدنيا، وهو يرى كثيرًا من الجهَّال وصلوا من الدنيا إلى ما لا ينتهي هو إليه! فإذا كانت الدنيا تُنال مع الجهل فما بالنا نشتريها بأنفس الأشياء وهو العلم! فينبغي أن يقصد بالعلم وجه اللَّه تعالى، والترقّي إلى جوار الملأ الأعلى.
والكلام في العلماء وما ينبغي لهم يطول ولكنَّا نُنَبِّهُ على مهمَّات؛ فمن هؤلاء من يطلب العلوَّ في الدنيا والتردُّد إلى أبواب السلاطين والأمراء كما ذكرناه، وحبَّ المناصب والجاه، فيؤدِّي ذلك إلي أنَّ قلبه يُظلم بهذه الأكدار، ويزولُ صفاؤه بهذه الأمور التي تُظلم القلوب، وتبعد عن علَّام الغيوب وإلى أنَّه يشتغل