اخضلَّت لحيته بدموعه، وقال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره. أمَّا واللَّه لا أملك غيره. فانظره مع ما حصل عنده من الرقَّة الدينية لم ينعم إلَّا بما هو من خاصة ماله، ولم يجد غير قميصه. وقد كانت خزائن الأموال مملوءة بين يديه.
قال العلماء: ولم يعطه من بيت مال المسلمين وإن كان الأعرابيّ فقيرًا مستحقًا؛ لأنه لما استنزله بشعره لم يكن العطاء لمصلحة المسلمين، فلم يعطه من مالهم. قالوا: أو أنَّه لم يثبت عنده أن الأعرابيّ من جملة مصارف مال الصدقات. وقال عليّ بن أبي طالب كرَّم اللَّه تعالى وجهه، والخزائن مملوءة بين يديه: من يشتري مني سيفي هذا؟ ولو وجدت رداء أستتر به ما بعته. فهذه سيرة أهل الحقّ والدين. ولسنا نطالب أهل زماننا بها؛ فإنَّهم لا يصلون إلى هذا المقام. ولكن نذكرهم لعلَّهم يرجعون أو يقصرون عمَّا هم فيه. فلا بد في الذكرى من نفعٍ إن شاءَ اللَّه تعالى.
ومن وظائفه النظر في الدين والصلوات. ولقد رأينا منهم من يعْمُرُ الجوامع ظانًّا أن ذلك من أعظم القُرَب. فينبغي أن يُفهم مثلُ هذا الملك أنَّ إقامة جمعتين في بلد لا تجوز عند الشافعي وأكثر العلماء؛ فإن قال: قد جوَّزها قوم، قلنا له: إذا فعلت ما هو واجبٌ عليك عند الكل فذاك الوقتَ أفعل الجائز عند البعض. وأمَّا أنك ترتكب ما نهى اللَّه عنه وتترك ما أمرَ به، ثم تريد أن تعمر الجوامع بأموال الرعايا؛ ليُقال: هذا جامع فلان، فلا، واللَّه لن يتقبله اللَّه تعالى أبدًا، وإنَّ اللَّه سبحانه طيّب لا يقبل إِلَّا طيّبًا. ومن أقبح البدع المحرَّمة تقبيل الأرض بين أيدي الملوك. فإن كان سجودًا بأن لاقى بجبهته الأرض قال النواوي: فسواء أكانَ إلى القبلة أو غيرها وسواء قصد السجود للَّه تعالى أو غفل هو حرام. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر أو يقاربه، عافانا اللَّه الكريم. انتهى. قال: وربَّما اغترَّ بعضهم بقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (?) والآية منسوخة أو متأوِّلة كما هو معروف في كتب العلماء. وسئِل ابن الصلاح عن هذا السجود فقال: هو من عظائم الذنوب، ونخشى أن يكون كفرًا. وفي بعض كتب الحنفية أن بعضهم قال: يكفر مطلقًا، وبعضهم قال: إن أراد التحية فهو حرام ولكن لا