الفصل أن ذا النعمة يجب عليه اعتقاد أنها من اللَّه تعالى، وحمد اللَّه عليها والوفاء بحقها. وقد جمع الشاعر هذه الأمور في قوله:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ... يدي ولساني والضميرُ المحجبا
والشاعر وإن لم يقل: إن هذا شكر فقد جمع أصنافه. وقد بيَّنا لك أن مجموعها الشكر. ومن كلامهم: الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، وثناء اللسان، والمكافأة بالفعل. والتعبير بالمكافأة عندي غير سديد؛ فإن أحدًا لا يقدر على مكافأة المنعم بالحقيقة. وإنَّما المعنيّ به استعمال الجوارح بقدر الاستطاعة في التكاليف حسبما شرحناه.
إذا كنت مقبول الكلمة عند ولي الأمر فالمطلوب منك أن تنصحه، وتنهى إليه ما يصحّ ويثبت عندك من حال الرعايا، وتساعد عنده على الحقّ بما تصل إليه قدرتك. ولا يكن حظّك منه الاقتصار على حُطَام تجمعه لنفسك أو دنيا تضمها إليك؛ فإن ذلك سبب زواله عنك بل المقتضى لدوام ما عندك منه ما ذكرناه من النصيحة والمساعدة في الحق؛ لتدوم لك نعمتُه التي هي سبب نعمتك، ومودَّته التي بها وَصَلت إلى ما وصلت، وليدوم لك منه ما أسده إليك. وما أحمق من كانت له كلمة نافذة عند وليّ أمر فوجد مظلومًا يستغيث فقام يصلِّي شكرًا للَّه تعالى على أن جعله ذا كلمة نافذة عند ولي الأمر، وترك المظلوم يتخبطه الظلم ولا يجد منجدًا، وهو قادر على إنجاده. فذاك الذي صلاته وبال عليه؛ كما قال الفقهاء فيمن كان يصلِّي فمرَّ به غريق تتلاطمه أمواج البحر، وهو قادر على إنقاذه، فإنه يجب عليه قطع الصلاة وإنقاذه. وذاك وهذا سِيّان.
واعلم أنَّ هذين المثالين أعني الثالث والرابع يشملان كل وليّ أمر، وكل مقبول الكلمة عند وليّ أمر: صغير أو كبير. ونحن نرى أن نحضَّ غالب الناس بأمثلة تستوعب معظم الوظائف التي استقرَّت عليها قواعد المسلمين في هذا الزمان، ونذكر ممَّا يطالب به صاحب تلك الوظائف يوم القيامة، ويخشى عليه في الدنيا والدين سوء العاقبة بسبب التفريط فيه، ما يكون موقظًا له من سِنَّة الغفلة