وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} (?) الَّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وتغرَّبوا عن أوطانهم، وكثر عناؤهم واشتدَّ بلاؤهم، وتكاثر أعداؤهم، فغلبوا في بعض المواطن، وقتل منهم بأحد وبئر معونة وغيرهما من قتل، وشجّ وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكسرت رباعِيَته، وهشمت البيضة على رأسه، وقتل أعِزّاؤه، ومثَّل بهم، فشمِتَ أعداؤه، واغتمَّ أولياؤه، وابتُلوا يوم الخندق، وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا في خوفٍ دائم، وعُرْي لازم، وفقر مُدْقِع؛ حتى شدّوا الحجارة على بطونهم، من الجوع. ولمِ يشبع سيِّد الأولين والآخرين من خبز بُرّ في يوم مرتين. وأوذي بأنواع الأذيّة حتى قَذفوا أحبّ أهله إليه، ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطليحة والعنْسيّ. ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير. ولم تزل الأنبياء والصالحون يُتعهّدون بالبلاء الوقت بعد الوقت، يبتلي الرجل على قدر دينه: فإن كان صُلبًا في دينه شدَّد في بلائه. ولقد كان أحدهم يوضع الميشار على مَفْرِقه فلا يصدُّه ذلك عن دينه. وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله"، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرعها مرَّة وتعدلها مرَّة حتى تهيج" فحالُ الشدَّة والبلوى مقبلة بالعبد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن اللَّه تعالى، {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (?) فلأجل ذلك تقلَّلوا في المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمجالس والمساكن والمراكب وغير ذلك؛ ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى اللَّه تعالى والإقبال عليه. السابعة عشرة الرضا الموجب لرضوان اللَّه تعالى؛ فإن المصائب تنزل بالبَرِّ والفاجر؛ فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة، ومن رضيها فله الرضا، والرضا أفضل من الجنَّة وما فيها؛ لقوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (?) أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.