لأهمّ شيوخه، وقد تجاهل القفطي أمر تحصيل ياقوت علميا فزعم أنه قرأ شيئا يسيرا من النحو واللغة، وأنه حصّل بالمطالعة فوائد اقتضاها فهمه العسر «1» ، وبخس الرجل حقه ولم ينصفه، وكأن القفطي يريد أن يقول إن ياقوتا لم يكن له شيوخ، وأنه كان في ثقافته عالة على الصحف وحدها، وأن هذه الصحف لم تعطه كلّ ما فيها لعسر في فهمه، فطعن في مستوى ثقافته وقلل من شأنها، وغمزه في قدرته على الإفادة مما يقرأ.
لكن الجفوة بين عسكر وياقوت قد تولاها الزمن بالتخفيف ثم بالإزالة، ويقال في هذه المناسبة إن سيده عطف عليه واستعاده إلى خدمته، ولكنه لم يعد مولى فقد نال حريته قبل سبع سنوات، وإذن فقد عادت الرابطة بين الرجلين للمصلحة الاقتصادية المشتركة، وعاد ياقوت ينقل السلع بين كيش والشام ومصر، وحين رجع من سفرة إلى كيش (سنة 606) وجد عسكرا قد توفي، فأعطى أولاده وزوجته نصيبهم من رأس مال وربح، على طريقة المراضاة «2» ، وبقي له ما جعله رأس مال له، وكان تعوّده النسخ قد جعل الكتاب إحدى السلع الأثيرة لديه، فظلت التجارة هي مهنته المفضلة، ولكنه أصبح في حركاته شرقا وغربا «سيد نفسه» .
وفي العام التالي لوفاة عسكر مولاه (أي سنة 607) نجده يحمل سلعا إلى الشام وفيها كتب علمية، ومن أبرز تلك الكتب «صور الأقاليم للبلخي» نسخة رائقة مليحة الخط مصوّرة، وكان ياقوت يمنّي نفسه أن يبيعها من ملك يحب اقتناء الكتب الجميلة، ولا يهمه ثمنها مهما علا، ويمتد به الحلم فينظم أبياتا يمدح بها ذلك الملك المتخيّل، ولا ينسى أن يورد في أبياته ذكر العلاقة بين الملك الذي يحكم الأقاليم والأقاليم نفسها (انظر القطعة الشعرية رقم: 12) ولا ندري كيف اتصل خبر النسخة بالملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب يومئذ فأرسل من يشتريها منه، وبيعت النسخة من غير ربح، ويضيف ياقوت قوله: «وجرت لي فيها قصة طريفة أنزّه هذا السلطان عن ذكرها، فإنه وإن كان الحظ حرمني [جود كفّه] فإنه جواد عند غيري» «3» .