إلى المدينة بعد سنين؛ قال: فخرجت به إلى مكة فكلمت له ابن داود وعرّفته حاله الذي صار إليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
حدث الآبري «1» وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري السّجزي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن المولد الرقي يحكي عن زكريا بن يحيى البصري ويحيى بن زكريا بن حيويه النيسابوري، كلاهما عن الربيع بن سليمان، وبعضهم يزيد على بعض في الحكاية، قال الربيع، سمعت الشافعي يقول:
كنت أنا في الكتّاب أسمع المعلم يلقّن الصبيّ الآية فأحفظها أنا، ولقد كان [الصبيان] يكتبون أمليتهم «2» فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم، قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحلّ لي أن آخذ منك شيئا. قال: ثم لما خرجت من الكتّاب كنت أتلقط الخزف والرقوق «3» وكرب النخل وأكتاف الجمال أكتب فيها الحديث وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور فأكتب فيها حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافا وخزفا وكربا مملوءة حديثا. ثم إني خرجت عن مكة «4» فلزمت هذيلا في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها وكانت أفصح العرب. قال: فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمرّ بي رجل من الزبيريين «5» من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله عزّ عليّ ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: فمن بقي ممن يقصد «6» ؟ فقال لي:
مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ، قال: فوقع [ذلك] في قلبي فعمدت إلى «الموطأ» فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليال ظاهرا، قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة وإلى مالك بن أنس، قال: فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال: يا فتى إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذلّ حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر،