وكما قال الآخر:
تفوّقت درّات الصبا في ضلاله ... إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي «1» ، وتمامه يضيق عنه هذا المكان» .
«والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الاخوان والأخدان، في هذا الصقع، من الغرباء والأدباء والأحبّاء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقرّبهم والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والريّ وما والى هذه المواضع، وتواتر إليّ نعيهم واشتدّت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى ربّ الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب» .
«وبعد فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم، منهم أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسدّ بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلّنا العلم في الأول ثم كاد يضلّنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل من أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزّق ألف جزء وطيّرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفا. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الآجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار» .
«وماذا أقول بعد هذا، وبماذا تقابلني بعد ذلك، سوى أني أقول وسامعي يصدق: إن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك لزمان تدمع له العين حزنا وأسى، ويتقطّع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجى، وما نصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت