البلاء عليك، ووجود الرضا منك، وإن كان فيه ما يخالف هواكَ، أفتراه لا
يقبل كتابك في يوم القيامة وإن كان مملوءا زَلاَّت، وهي لا تضرّه، ألا تراه
يقول في إبراهيم: (ولقد اصْطَفَيْنَاه في الدّنيا وإنّه في الآخِرة لمِنَ الصّالحين) ، واصطفاك أنتَ بكتابه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنا الكتابَ الذين اصطَفَينا مِنْ عبادنا) .
والاصطفاءُ فعْل الله، وفعل الله مبنيّ على الابتداء، قال تعالى: (كما بدأكُمْ
تَعُودون) .
والصلاح فعل العبد، وفعل العبد مبني على الخواتيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ".
واعلم أنَّ مَنْ سأل الله شيئاً سأل الله منه، فمن لا يقوم للَه فما سأل منه لا
يعطيه ما يسأل، ومَنْ قام للهِ فما سأل منه أعطاه بلا مؤونة، ألا ترى أن الله أعطى لإبراهيم المالَ في الدنيا والولد والمعجزات بغير سؤال، فلما سأل إبراهيم بقوله: (إِني ذاهب إلى ربّي سيهْدِين) - سأل منه الكلّ فقال له:
أسلم، أي الكل إلى الكل، إنْ أردْتَ الوصول إلى الكل.
ولما سأل منه إحياء الموتى سأل الله منه إماتة الحى، ألا ترى أنه قال: (فلمَا أسْلَما) .
يعني وضع السكين على حَلْقه قال: إلهي بكَ ولَكَ وإليْكَ، أي بك
الصبر على فراقه، ومنكَ إعطاؤه، ولكَ الحكم فيه، وإليك يرجع الأمر كله.
فإن قلت: ما الحكمة في جزعَ إبراهيم وصَبر إسماعيل؟ (?)
والجواب: إسماعيل عَرف - برؤية المعرفة - أن إبراهيم إنما ابْتلي بذبحه، لأنه
التفت بقلبه عن الله، فلو أنَّ الولد التفت بقلبه لابْتُلي كما ابتلي إبراهيم.
وأيضاً جزع إبراهيم على مفارقة حبيبٍ لم يكن له وصلة في ذلك الوقت إلى مَنْ هو أحب إليه منه.
وإبراهيم لم يجزَعْ، لأنه وصل إلى الحبيب المجازي.
وقيل لما وضع السكين على حَلْقه أراه الله نوراً من أنواره أنساه ما يجِد من
الألم لوجود لذة ذلك النور، كنساءِ مِصْرَ اللواتي قطّعْنَ أيديهن برؤية يوسف.