ليس كما يزعم البعض ويظن، فإن الصحابة -رضوان الله عليهم- حينما قاموا بالإنكار على الأعرابي لم يكونوا تاركي فائدة العلم التي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من المعلوم بداهة أنه بقيامهم وإمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن حديثه انتفى وصف ذلك المجلس بكونه مجلس علم محض، وأصبح العلم منصَباً إلى تلك الحادثة والنازلة بعينها، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن أول ما يجب على الإنسان طلب العلم بخطاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة تبع ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) [محمد:19] ؛ لأن العبودية الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا بالعلم، والنجاة في الدنيا والآخرة متوقفة على العلم، ثم بعد أن يطلب العلم سواء على سبيل الإجزاء أو على الكمال، بعد ذلك يتوجه عليه الأمر بالعمل بالعلم ثم بالتبليغ، ويدلّ لذلك آية التوبة: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [التوبة:122] . فجعل مرتبة الدعوة والإنذار بعد مرتبة التفقه والعلم.
ولا يعني هذا أن يسكت طالب العلم أثناء الطلب ويقول: لا أنكر حتى أصبح عالماً أو شيخاً، هذا خطأ، بل كلما تعلم شيئاً وضبطه بلّغه على حسب مقدرته، ولا إفراط ولا تفريط.
وإذا بدأ طالب العلم مع العوام والجهال والصغار في الدعوة، يبدأ بالأهم، فالأهم العقيدة وتصحيح عقائد الناس، ثم تصحيح عباداتهم، وهذا الهدى دلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة إن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ... ) (?) [101] ) الحديث.