فالمقصود أن طالب العلم في هذه المرتبة الاتباع، لا يحتار، بل يعرف ويضبط مسالك وطرق العلماء في الاستدلال، إن سار على هذا الضابط سلم، مثلاً: مفهوم الصفة أنه حجة، تقول: (في السائمة الزكاة) ، أنها إذا لم تَرْعَ أكثر الحول لا زكاة فيها، فتعتبر مفهوم الصفة هنا في باب الزكاة، وتعتبره في أبواب المعاملات كما اعتبرته في العبادات.
لكن لو تنقلت بين عالمين: أحدهما يرجح مفهوم الصفة مثلاً، والآخر لا يقول به، وقلت بأقواله في المعاملات؛ لقوته فيها وتمرسه، فتردّ نصوصاً فيها حجة المفهوم الذي تعتبره في العبادات ولا تعتبره، ولا تتعبد الله به في المعاملات، فيصبح هذا تناقض، وهذا الذي جعل العلماء -رحمة الله عليهم- يمنعون من التلفيق بين أقوال العلماء والمذاهب في بداية التفقه.
ومن بلغ مرحلة أن يجتهد ويقف أمام ترجيحات الفقهاء، وكانت عنده ضوابط ومسالك يسير بها في اجتهاداته، وكذلك ملكة يعلم بها قوة وضعف أدلة الخصم، فإذا بلغ هذه المرتبة، ينتقل للمرتبة الثالثة، وهي:
المرتبة الثالثة: الاجتهاد.
أما أن تكون في مرتبة الاتّباع وتجتهد، فلا، والله، لشرفٌ لك أن تقول: اتبع قول فلان -وتراه موثوقاً بعلمه وديانته من علماء السلف، أو من العلماء المعاصرين ممن شُهد لهم بالضبط والتحري، فتبقى على قوله بالدليل- من أن تجتهد ولستَ من أهل الاجتهاد، فإذا انتهيت من الفقه وعلم هذا الشيخ أو ذاك وتصورته على هذه الطريقة، إذا بك وجميع مسائل الفقه منحصرة عندك بضوابط معيّنة، وتجدك اكتملت عندك الصورة، وتصورت الفقه بأكمله على نمط معين مؤصَّل على منهج السلف، ولذلك انظروا للأئمة، ما منهم إلا وكان له مذهب معين.
فمثلاً شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله انظر إليه في (المجموع) : قال أصحابنا، وارتضاه أصحابنا، وهو الصحيح من أقوال أصحابنا.