الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله، وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أبها الإخوة المؤمنون المباركون! هذه حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الرب تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
هذه الآية قبل أن نشرع في بيان ما نريد أن نميط اللثام عنه بياناً نقول: خاطب الله جل وعلا بها ونادى خير خلقه وصفوة رسله صلوات الله وسلامه عليه نداء كرامة وهو قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، فناداه الله جل وعلا بوصف هو له صلى الله عليه وسلم آتاه الرب إياه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما مر معنا في دروس قد خلت، وأيام قد سلفت، لم يناد في القرآن باسمه الصريح يا محمد! وهذا من دلالة احتفاء الله بهذا النبي الكريم، وبيان علو منزلته ومقامه عند ربه جل وعلا.
في هذه الآية يناديه ربه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، والذي نريد أن نبينه: أنه توجد واو هنا هي واو عاطفة بالاتفاق بين قوله جل وعلا {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، فالواو عاطفة ما بعدها على ما قبلها، وإنما
Q هل معطوف عبارة {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أو جملة آية: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] على لفظ الجلالة؟ فيصبح المعنى: أيها النبي حسبك الله وحسبك أتباعك من المؤمنين، أو أن قوله جل وعلا: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] معطوف على الكاف في قوله: حسبك، فيصبح المعنى بهذا: حسبك الله وحسب أتباعك من المؤمنين، أي: أن الله جل جلاله حسب لك -أيها النبي- وكاف، وحسب كذلك لأتباعك من المؤمنين أي: أن الله ناصر لك وناصر لهم، مؤيد لك ومؤيد لهم.
قبل أن نرجح نقول: إن من طرائق الترجيح: أن ننظر في المفردة كيف استعملها القرآن، فمن خلال هذه الطريقة نصل إلى قضية ترجيح مقنع، فإذا تأملنا كلمة: (حسبك) وهي بمعنى: كافيك وجدنا أنها في القرآن لم تسند أو لم تضف إلى غير الله جل وعلا وحده، فلا تضاف إلا لله تبارك وتعالى بخلاف غيرها من بعض الألفاظ التي تحتمل معنى النصرة والتأييد والإذعان والإيتاء، وقد وجدنا أن الرب تبارك وتعالى يضيفها إليه ويضيفها إلى غيره، فقد يضيفها إلى الرسول وقد يضيفها إلى المؤمنين، نتأمل بعض الآيات الدالة على صحة ما ذكرناه: قال الله جل وعلا في سورة التوبة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فنلاحظ أن الله جل وعلا أضاف كلمة رسول إلى لفظ الجلالة فمعنى هذا: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله وما آتاهم رسوله، فالإيتاء أضيف إلى الله وأضيف إلى الرسول، لكنه قال في نفس الآية بعدها وقالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59].
فتلحظ -أيها المبارك- أن الله لم يقل: إنهم قالوا: حسبنا الله ورسوله، لكنه قال: إنه كان ينبغي لهم أن يقولوا: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59].
إذاً: لا غضاضة ولا حرج أن يضاف الإيتاء من الفضل إلى الله وإلى الرسول، لكن هناك غضاضة وحرج بل نقول: لا يجوز أن تضاف كلمة (حسب) إلى غير الله وهذا باستقرائنا للقرآن.
أيضاً: قال الله جل وعلا: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:74]، فكما قلنا في لفظ الإيتاء نقول في لفظ الإغناء: فيصبح معنى الآية: إلا أن أغناهم الله وأغناهم رسوله، ونظيره كذلك ما مر معنا في قصة زيد بن حارثة رضي الله عنه أن الله جل وعلا قال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، والإسناد هنا ظاهر أكثر منه فيما سبق؛ لأنه تكرر اللفظ نفسه -أي: لفظ الفعل- وهذا كله يؤيد أن القرآن استخدم ألفاظاً لا يمكن إضافتها إلى غير الله، واستخدم ألفاظاً أضيفت لله وأضيفت إلى غير الله مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
لكن ينبغي التنبه جيداً: إلى أنه وإن أسندنا الإيتاء لله حيناً وللرسول حيناً، وأضفنا الإنعام إلى الله حيناً وإلى الرسول حيناً، وأضفنا الإيتاء والإغناء وأمثاله مما سلف؛ أنه ينبغي أن يعلم أن إنعام الله غير إنعام عبده، وإيتاء الله غير إيتاء عبده، وإغناء الله غير إغناء عبده، وهذا مهم جداً، ولنأخذ أنموذجاً: قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، أنعم الله عليه بالإيمان بالخلق بالإيجاد بالهداية بالإرشاد، وأما أنت -أيها النبي- عندما أسندنا الإنعام إليك فقلنا: {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] لا يمكن أن يكون هذا مظاه للأول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيده خلق، وليست بيده هداية خاصة، وإنما هو بشير ونذير صلوات الله وسلامه عليه، فيصبح قوله جل وعلا: {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، أي: أنعمت عليه -أيها النبي- على هذا الذي هو زيد أنعمت عليه رضي الله عنه وأرضاه بالعتق.
يتحرر من هذا: أن قول من قال من العلماء: أن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] معطوف على لفظ الجلالة هو رأي مرجوح بعيد عن الصواب لا توافقه سياقات القرآن، لكنها تسير بنا طوعاً ظاهرة بينة إلى القول أن قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، معطوف على الكاف في قوله جل وعلا: {حَسْبُكَ} [الأنفال:64]، ويصبح المعنى: أن الله تبارك وتعالى -يا أيها النبي- كاف لك وكاف للمؤمنين الذين اتبعوك ونصروك، على أنه ينبغي أن يعلم إن استطردنا كما هو الحال في كثير من هذه الحلقات المباركة: أن نصرة الله جل وعلا لأنبيائه ورسله أمر ظاهر بين لا يحتاج إلى مزيد دليل، فإن الله جل وعلا أيد رسله أجمعين بنصره، وأيدهم جل وعلا كذلك بالمؤمنين، لكننا نلحظ أن القرآن إذا ذكر تأييد المؤمنين لنبيه صلى الله عليه وسلم يأتي بها مفردة، ومن أدلة ذلك الظاهرة: قوله جل وعلا في الآية التي قبلها: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62] ولاحظ هنا الوقوف، ثم قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62].
ولا ريب أن المهاجرين الأولين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين كانوا أعظم من نصر الله جل وعلا بهم نبيه، فصلى الله وسلم على النبي المختار، ورضي الله عن المهاجرين والأنصار، وألحقنا بهم بإحسان إن ربي عزيز غفار.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده -أيها المباركون- حول قول الله جل وعلا في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.