الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية: والآية التي نحن بصدد إماطة اللثام عن معناها البياني ونتوج بشرف الحديث عنها: هي قول الله جل وعلا في آيتين متتابعين في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47].
ظاهر عندك: أن الله جل وعلا امتن على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر والقول أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
كما ورد في ذلك الأثر، فما الذي يدفعنا إلى الحديث عن هذه الآية؟ نقول: إن بعض أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم يذهبون إلى أن الجن إنما ينحصر جزاؤهم في أن الله جل وعلا يجيرهم من عذاب النار وأنهم لا يدخلون الجنة، وحججهم في هذا: هي قول الله جل وعلا في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]، إلى قوله سبحانه وهو موضع الشاهد: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
لكن بيانياً: هل الآية التي احتجوا بها تصلح للسياق الذي ذهبوا إليه أم أن هناك ما يعارض هذا المفهوم الذي تبين لهم من كلام الله جل وعلا؟ نقول: أجاب عن هذا ابن كثير رحمة الله تعالى عليه -وحسبك به قامة علمية في علم القرآن خاصة- قال رحمه الله: والحق أن مؤمنهم كمؤمن الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا لقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، ثم قال: وفي هذا الاستدلال نظر وذكر المعنى الذي ذكرناه من قول الله جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
ثم إنه قال رحمة الله تعالى عليه في كلام علمي رزين: فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضاً: فإنه كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى، وهذا القول الذي حرره الحافظ ابن كثير أنت ترى علامة الظهور والعلو العلمي عليه، فأنت تجد نفسك تميل إليه لقوة دليله، وهذا الذي ينبغي أن يساق المرء إليه في اختيار الأدلة.
ثم قال: ومما يدل أيضاً على ذلك: عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، والذي قصده الحافظ ابن كثير بهذا العموم: أن قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:107]، فالذين: اسم موصول وهو من ألفاظ العموم، فيدخل فيه مؤمن الجن ومؤمن الإنس على السواء، ولا دليل على تخصيص أحدهما دون الآخر، ثم قال جل وعلا بعد ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، وقد بينا رأي الحافظ ابن كثير في ذلك.
نعود إلى قوله: وما ذكره ها هنا من الجزاء على الإيمان -أي: العلماء الذين لا يرون أنهم يدخلون الجنة ويكتفون بالقول: بأنهم يجارون من العذاب- قال رحمه الله يجيب عليهم: وما ذكره ها هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار فمن أجير من النار أدخل الجنة لا محالة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار، ثم قال: ولو صح لقلنا به والله أعلم وهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:4]، ولا خلاف أن مؤمن قومه في الجنة فكذلك هؤلاء، أقول بعد ما سقت كلام الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه: إن الإنسان أحياناً يغلب عليه الاقتصار على جزئية واحدة، وهذا بلا شك يحدث خللاً في التصور العلمي.
فينبغي للناظر في القرآن وفي غيره من أمور الشرع: أن تكون نظرته نظرة شمولية عامة شاملة يستحضر جميع الأدلة التي تعنى بالقضية؛ لأن النظر بطريقة جزئية دون استصحاب مقاصد الشرع مع ضرب الذكر صفحاً على الأدلة الكلية والأشباه والنظائر يجعل من المقولة بعد ذلك لا تستوي علمياً، ولا ترتقي إلى أن يعتقدها الإنسان شرعاً ويدين الرب بها تبارك وتعالى.
فعلى هذا كنا نرى في كلام الحافظ ابن كثير قرباً من الصواب أو فلنقول ونجزم: إنه هو الصواب؛ لأن الطريقة التي سلكها الحافظ ابن كثير في طرح دليله هي الطريقة العلمية التي ينجم عنها الوصول بفضل الله جل وعلا ورحمته إلى القول السديد في القضية، وقد قلت: إن الأولين الذين ذهبوا إلى الرأي الأول هم علماء فضلاء اقتصروا على آية واحدة، وليست هذه طريقة صحيحة ولا منهجية في الدليل العلمي.
ولهذا أمثلة ونظائر وأشباه في كلام الرب جل وعلا، فأنت ترى أن العلماء الذين وفق غالبهم إلى الصواب وترى في قولهم مكانة العلم وقوة الحكم إنما وصلوا إليه بقدرتهم على النظرة الشمولية، وعلى هذا نقول: إن عدم التعجل في الحكم الشرعي هو الذي -بعد فضل الله جل وعلا ورحمته- يهدي إلى الطريق الأقوم، على أنه ينبغي أن يعلم أن من قال بذلك القول الأول الذي رأيناه مرجوحاً من العلماء لا يعني ذلك الغضاضة منهم أو التقليل من شأنهم، قال الشاطبي رحمه الله في بيت شعر جامع مانع كامل يظهر فيه الأدب مع العلماء: وواجب عند اختلاف الفهم إحسان الظن بأهل العلم وقد قال ابن رجب رحمه الله في القواعد: يأبى الله العصمة إلا لكتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه أرجو الله جل وعلا أن نكون قد وفقنا فيما حررناه وبيناه وقلناه، والله وحده هو المستعان، وعليه البلاغ، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، حول قول الله جل وعلا: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:47].
وقبل أن أطوي هذه الحلقة أقول: إننا وإن بيناها من جهة دليلها العلمي وما أشارت إليه، لكنها من ناحية الوعظ تبين أن الخوف من مقام الله منزلة وأي منزلة من أعطيها فقد أعطي حظاً عظيماً جليلاً من القرب من الرب تبارك وتعالى، يسر الله لي ولكم هذه المنزلة، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.