إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة مباركة جديدة من برنامجكم: (معالم بيانية في آيات قرآنية) وشرف الحديث اليوم حول قول الله تبارك وتعالى في سورة التحريم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
بداية نقول: قال العلماء في تفسير هذه الآية: هذا مثل ضربه الله جل وعلا في عدم تبرر المؤمن بقرابة الكافر، ولو كانت تلك القرابة قرابة زوجية وما أقواها، وهذا المثل لامرأة فرعون الكافر الظالم، وهي آسية بنت مزاحم، وكانت قد آمنت بموسى مع من آمن، فلما عرف فرعون إيمانها، أمر بقتلها، فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها، قالت في مناجاتها لربها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، والذي نريد أن نميط اللثام عنه: أن هناك تقديماً وتأخيراً في الآية.
يقول الله جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ} [التحريم:11]، يحكي الله جل وعلا هنا مناجاتها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] تلحظ -أيها المبارك- أنها اختارت جوار الواحد القهار قبل أن تختار الدار، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، ولم تقل: (رب ابن لي بيتاً في الجنة عندك)، ولكنها قالت كما حكى الله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، فتقديم الظرف هنا له دلالاته الكبيرة، وأعظمها: أن هذه المرأة الصالحة التقية، كانت في شوق عظيم إلى لقاء الرب تبارك وتعالى، وقد مر معنا في حلقات مضت وسلفت: أن الشوق إلى الله تبارك وتعالى خصيصة من أعظم ما خص الله جل وعلا بها الأنبياء والصالحين، كما سمعت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها نبينا صلى الله عليه وسلم عندما خُير ما بين لقاء الله ثم الجنة، فسمعته يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
الذي يعنينا: أن تقديم الظرف هنا له دلالاته الكبيرة، فهذه المرأة امرأة مباركة حتى في منطقها، وهذا المنطق تفردت به بعض النساء اللاتي جاء الشرع بتزكيتهن، مثل آسية بنت مزاحم، كما هو ظاهر في هذه الآية، وكما جاء في تزكية خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فإن خديجة رضي الله عنها وأرضاها لما أقرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله ومن جبريل السلام قالت رضي الله عنها وأرضاها: وعليك وعلى جبريل السلام.
ففقهت في منطقها وهي يومئذ حديثة عهد بالدين كله، قالت: فإن الله هو السلام، ففقهت: أن الله هو السلام، ولا يرد السلام عليه تبارك وتعالى.
وهذا التقديم: جرت سنن العرب أنها تلحظه وتجعله فارقاً في أمور كثيرة في لغتها وتخاطبها، ومن أمثلة ذلك: أن جابر بن سليم رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عليك سلام الله يا رسول الله! الآن تلحظ أنه قدم الجار والمجرور، فقال: عليك سلام الله، ولم يقل: السلام عليك، فأجابه نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى، قل: السلام عليكم).
والموتى يحيون بإحدى طريقتين: إذا وقفنا على قبورهم وأردنا زيارتهم واقتربنا ودنونا من قبورهم نقول: السلام عليكم، كما علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين)، وإذا شرفنا بالسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه في قبره والسلام على صاحبيه فإننا نقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا عمر بن الخطاب! هذه حالة.
الحالة الأخرى: أن يذكر الميت في الحديث، فتعدد مناقبه وتذكر فضائله، في هذه الحالة إذا أردنا أن نسلم عليه، فلا نقل: السلام عليك، وإنما نقدم الجار والمجرور، فنقول: عليك سلام الله، وهذا هو الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لـ جابر بن سليم: (لا تقل: عليك سلام الله، فعليك سلام الله تحية الموتى).
ونجد في شعر العرب ولو عند المتأخرين كما نجده عند أبي تمام، عندما رثى الأمير العربي محمد بن حميد الطوسي قال أبو تمام في رثائه له: كأن بني نبهان يوم وفاته من دون سماء خر من بينها البدر إلى أن قال: عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر فقوله: (عليك سلام الله) هذه تحية الموتى التي عنيناها بحديثنا، نعود أيها المباركون للآية: هذه المرأة المباركة تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، نقول بعد هذا مؤكدين: إن الدنيا لا تطيب إلا بذكر الله، وإن الآخرة لا تطيب إلا بعفو الله، وإن الجنة لا تطيب إلا برؤية الله، فمن عَمر الدنيا بذكر الله وما والاه، غلب على الظن برحمة الله أن يرزق عفو الله في الآخرة، فإذا رزق عفو الله في الآخرة أدخل الجنة، فإذا أدخل الجنة رزق بعد ذلك لذة النظر إلى وجه العلي الأعلى تبارك وتعالى، وهو أعلى نعيم، وأجل عطية، قال الرب تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وقال تبارك وتعالى يبين حال أهل الكفر: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
إذاً: أراد الله جل وعلا بضرب هذا المثال عن هذه المرأة الصالحة: أن يبين رفيع مكانتها، وعلو منزلتها، وأنها رغم أنها تضاجع فرعون على فراشه، وتأكل من طعامه وشرابه، إلا أن ما في قلبها من إيمان ويقين بلقاء الله جل وعلا لم يجعلها تتأثر بطغيان أو كفر أو ظلم فرعون مثقال ذرة، فبقيت مسلمة طائعة لربها، قانتة له مؤمنة بلقائه، بل وتشتاق كل الشوق إلى لقائه، فلذلك قدمت الجار قبل الدار، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، ولم تقل: (رب ابنِ لي بيتاً في الجنة عندك).
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ قوله، وأعاننا الله جل وعلا على ذكره، وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.