ثم أردف وأتبع جل وعلا الآية هذه بقوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم:5]، هذه الحلقة تبحث في أن الله جل وعلا ذكر ثمانية صفات هاهنا، وهي قوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5].
ونلاحظ أن حرف الواو لم يأت إلا بين قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، أما ما سلف من صفات وما ذكر من وعود سابقة فلم يفصل ربنا جل وعلا بينهن في كتابه بفاصل، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الواو تسمى: واو الثمانية، ومن حججهم على إثباتها: أن الصفات الأول سبع، وصفة أبكار ثامنة، وقالوا: إن هذه الواو كثيراً ما تقترن في الأدب الشامل، ومن أدلتهم على ذلك: قول الله جل وعلا في سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]، قالوا: هذه الواو التي في قوله سبحانه: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]، هي الواو التي في قوله جل ذكره: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، ومن أدلتهم كذلك: أن الله جل وعلا ذكر عدد أصحاب الكهف، فقال سبحانه: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]، فقالوا: إن الله ذكر الواو هنا؛ لأنها دلت على الثمانية، والحق أننا لا نجد في ذلك قوة من حيث الدليل، أما آية الكهف فإن الله تبارك وتعالى لم يغير صيغة الإسناد، فعلى هذا لا يمكن أن يحتج بأن هذه الواو واو الثمانية، وأما في آية الزمر فإن الراجح أنها واو الحال، وأن ثمة شأناً سيحدث وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون شفيعاً لأهل الموقف من المؤمنين في أن يدخلوا الجنة، أما النار فإن أهلها يدخلونها ابتداء كما قال الله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]، أما الجنة فقد دل الحديث الشريف على أن النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح باب الجنة بعد أن يكون الناس قد نهضوا إلى آدم فيقول: (وهل أخرجتكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم)، بقي توضيح الآية التي نحن بصدد ذكرها في هذا المقام، فنقول: هذه الواو واو عطف، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل، وإنما جيء بواو هنا لبيان أن المرأة قد تكون مؤمنة ومسلمة من قبل، وقانتة وتائبة وعابدة وسائحة في وقت واحد، فلا تعارض أن تجمع المرأة بين هذه الصفات ولهذا لن تقع واو العطف بينهن، أما الثيبات والأبكار فإنه محال عقلاً أن تكون المرأة ثيباً وبكراً في وقت واحد؛ ولهذا فصل بينهما بالواو، فهذه الواو واو عطف ولا علاقة لها بواو الثمانية، فلو فرضنا جدلاً: أن الله جل وعلا ذكر خمس صفات لهؤلاء المؤمنات، فإن قوله جل وعلا: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، كان لا بد معه أن يفرق بين هاتين الصفتين بواو بصرف النظر عن عدد الصفات التي قبلها؛ لأن المرأة كما قلنا لا يجتمع فيها أن تكون ثيباً وبكراً في آن واحد، هذا البيان الحقيقي للمسألة.
بقي كذلك أن يقال: لماذا قدم الله جل وعلا الثيب على البكر؟ نقول هنا والعلم عند الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم خوطب بهذه الآية وقد جاوز الخمسين، وهو عليه الصلاة والسلام لديه من النساء الكثير مما أباحه الله جل وعلا له: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:62]، والنبي صلى الله عليه وسلم تعلقه بالنساء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب)، ليس تعلق الشهواني المحض الذي يوجد عند بعض الرجال، لكنه عليه الصلاة والسلام كانت هناك مصالح جمة نجم عنها تعدد أزواجه بينها العلماء في موضعها، لكنه هنا قدم الثيب لبيان أن القضية ليست مسألة شهوة محضة، فهو عليه الصلاة والسلام راجح العقل، تزدحم حياته بالكثير من المسئوليات، فهو أحوج إلى امرأة مجربة رزينة عاقلة أكثر من البكر، وإن كانت عائشة رضي الله تعالى عنها بكراً، لكن ليس كثير من النساء في مثل درجة عائشة رضي الله عنها وأرضاها من الفضل والكرامة والعقل الذي أعطاها الله جل وعلا إياها؛ فقد كانت رضي الله عنها وعن أبويها نعم السند لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
بهذا الأمر ينجلي الحديث عن قول الله جل وعلا: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]، ويتضح أن الواو هنا هي واو العطف، جيء بها للمغايرة، وليس كما ذهب إليه بعض أهل الفضل من أهل العلم في أنها واو الثمانية، وهذه الآية الكريمة كما هو معلوم هي الآية الخامسة في سورة التحريم التي صدرها الله جل وعلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1 - 2].
والذي يعنينا هنا كما بينا: إظهار ضعف قول من قال: إن الواو هنا واو الثمانية، وأوضحنا جلياً أن المقصود منها ذكر المغايرة، وأن ثمة أسباباً معنوية وعلمية تدفعنا إلى القول بأنه لا بد من التفريق ما بين الثيب والبكر لعدم اجتماعهما بخلاف ما سلف من صفات، وما ذكر من خلال، فإنه يمكن الجمع بينهن كما بيناه في حينه.
وفي الآية كذلك التي قبلها: دليل على منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، إذ أن قول الله جل وعلا: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، إظهار جلي، وبيان واضح، لمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، هذا -أيها الأخ المبارك، والأخت المباركة- ما تيسر إيراده، وتهيأ قوله، سائلين الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.