الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه حلقة مباركة جديدة من برنامجكم: معالم بيانية في آيات قرآنية، والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك: هي قول الله تعالى في فاتحة سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
الذي نريد أن نوضحه في هذا المقام: أن نقول أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أحد عشر عماً، هؤلاء الأعمام لم يدركوا كلهم نبوته صلى الله عليه وسلم، وإنما أدركها أربعة منهم، هؤلاء الأربعة الذين أدركوا بعثة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه انقسموا إلى فريقين: فريق آمن به وهما: حمزة والعباس، وفريق لم يؤمن به وهما: أبو لهب وأبو طالب، إلا أن أبا لهب وأبا طالب اختلفا، ليس في الكفر والإيمان فكلاهما كافر، لكن أبا طالب كان يناصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان معه في الشعب عندما حاصرته قريش.
أما أبو لهب فكان على النقيض من ذلك، فقد كان يؤذي النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم: (نادى قومه يا صباحاه! فاجتمعوا فأخبرهم عليه الصلاة والسلام بأنه سيحدثهم بحديث فهل هم مصدقوه؟ فأخبروه أنه محل الصدق فيهم، فلما دعاهم إلى التوحيد قال له أبو لهب: ألهذا جمعتنا! تباً لك سائر اليوم وانفض عنه)، فكان ذلك سبباً لانفضاض الناس عنه -أي: عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه- كما ثبت من وجه آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى التوحيد، فإذا فرغ من خطابه ودعوته قام عمه أبو لهب يتبعه ويفند ما قال، ويقول: لا تصدقوه إنه صابئ، وكان من المفترض على سنن الجاهليين أن ينصر ابن أخيه، من أجل هذا أنزل الله جل وعلا في هذا الرجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، والذي نريد أن نميط اللثام عنه من معلم بياني في هذه الآية أن نقول: قوله تعالى: ((تَبَّتْ)) الأولى: فعل يراد به الدعاء، أما في آخر الآية: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] فليست توكيداً ولا عطفاً، وإنما هي إخبار بأن ذلك الدعاء قد وقع، وأبو لهب كنيته واسمه: عبد العزى، والأصل في كلام العرب غالباً: أن الكنية يراد به التشريف، لكن الله جل وعلا هنا لم يخاطب أبا لهب باسمه، وإنما خاطبه بكنيته، وثابت ومؤكد أن الله جل وعلا لم يرد تشريف أبي لهب؛ لأن مقتضى السياق مع كفره يأبى ذلك، لكن الله جل وعلا أراد أن يقول: إن المعني بهذا الكلام هو ذلكم أبو لهب الذي تعظمونه وتكنونه بـ أبي لهب، وقد كني بـ أبي لهب لاحمرار وجنتيه أشبه بالجمرتين، وهذا يدل على أنه أعطي حظاً من جمال، لكن جماله لم ينفعه، ولم يكن سبباً في إسلامه، بل قسا قلبه، وأتبع ذلك بعداوته لنبينا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الرب جل وعلا فيه قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
وقد تضمنت السورة بوجه كلي أمراً آخراً يدل يقيناً على أن القرآن منزل من عند الله، السورة تقول: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]، ثم قال الله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، فهذا إخبار من الرب جل وعلا أن أبا لهب سيصلى النار لا محالة، فما السبب في أنه سيصلى النار؟ السبب: هو كفره، ألم يكن بمقدور أبي لهب ولو كذباً وادعاء أن يقول لقريش: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؟ حتى بصنيعه هذا يفند قول النبي صلى الله عليه وسلم، فسيقول للناس على الملأ: أنا أشهد وأؤمن بما جاء به محمد، ومحمد يقول: إنني في النار، لكن مع سهولة النطق بهذه الكلمة فقد علم الله أجلاً وأوقع ذلك قدراً أن هذا لن يكون من أبي لهب ألبتة، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، فمنع الله لسانه وقلبه من أن ينطق بالشهادة ولو زوراً وكذباً، أو ميلاً ونفاقاً وادعاء؛ حتى لا يكون ادعاؤه مبطلاً لكلام الله، وحاشا لله أن يبطل كلامه أحدٌ سبحانه.
إذاً: هناك سر عظيم في هذه الآية والسورة أمطنا اللثام عنه، ثم نعود للفعل الذي تأكدنا وتبين لنا أن الله جل وعلا قاله في أوله دعاء، وقاله في آخره إخباراً بوقوع ذلك الدعاء.
أما كيف حل الدعاء بـ أبي لهب؟ فهذا ما أجابت عنه الآيات: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:2 - 5]، فاشترك هو وزوجته -عياذاً بالله- عذاب النار.
من هذا كله -أيها المبارك- تفهم أن الهداية بيد الله جل وعلا، وهؤلاء أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر كما بينا في الأول، سبعة منهم لا يقدر لهم أن يدركوا حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته، والله أعلم بما كانوا عاملين، ويبقى أربعة من حيث النسب يتفقون في شأن واحد، وهو أنهم كلهم أبناء عبد المطلب، لكن من حيث الكفر والإيمان يمن الله جل وعلا على حمزة في الأول فيسلم وينال مرتبة سيد الشهداء، ويمن الله جل وعلا على العباس بن عبد المطلب فيسلم فيكون عم النبي صلى الله عليه وسلم المبجل، ويكون في حقه صلوات الله وسلامه عليه: (عم الرجل صنو أبيه) كما أنه رضي الله عنه وأرضاه -أي: العباس - شارك في غسل النبي عليه الصلاة والسلام، وكان -كما قال المؤرخون- أول من صلى عليه؛ لأن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالاً أي: فرادى، ولم يكن لهم إمام، فهذان ممن أكرمهم الله بالهداية.
أما أبو طالب فإنه لم يقدر له أن يؤمن مع يقينه أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من ربه، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا ومعلوم: أن تلك النصرة التي قدمها لنبينا صلى الله عليه وسلم جعلت النبي عليه السلام يشفع له عند ربه؛ فكان أهون أهل النار عذاباً، أما أبو لهب فهو الشقي حقاً، فلم يؤمن كما آمن العباس وحمزة، ولم ينصر كما فعل أبو طالب، لكنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم فصدق في حقه قول الحق تبارك وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.