يقول ابن القيم ـ رحمه الله: فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته , ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى ... انتهى. والله أعلم.
- السؤال الثامن: ما حكم الثقة بالنفس وهل تتنافى الثقة بالنفس مع اتهام
السلف لأنفسهم بالتقصير ومع التواضع المشروع؟
الثقة بالنفس بعد التوكل على الله مطلوبة شرعاً، فالمسلم يتعين عليه أن يُحسن الظن بالله تعالى، وأن يتفاءل لنفسه الخير والنجاح دائماً، ويسعى باستمرار في سبيل الارتقاء لتحصيل الكمال، ويستخدم لذلك فكره وطاقته، ويبذل جهده وما تيسر له من الوسائل في تحقيق طموحاته والوصول إلى أهدافه، فقد قال الله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {آل عمران: 159}.
وفي حديث الصحيحين: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي.
وفي رواية لأحمد: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن بي شراً فله.
وفي حديث مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).
وأما عدم الثقة بالنفس: فهو نوع من العجز لا يرتضيه الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العجز، يقول صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني. رواه الترمذي وحسنه.
وإذا كان عدم الثقة بالنفس خلقا ذميما، فهو ليس مرادفا للتواضع ولا مظهرا من مظاهره، لأن التواضع خلق محمود، وهو لا ينافي الثقة بالنفس، ويكفي دلالة على ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعا مع شجاعة وإقدام وتوكل على الله في كل ما هو من أمور الخير.
ولا بأس بالنظر في عواقب الأمور، ووضع احتمال الإخفاق في أمرٍ ما، والنظر في العلاج لما يمكن حصوله، فيحذر من أسباب الفشل ويحاول إصلاح ما فسد، وأما الاتهام للنفس الذي كان يفعله السلف فهو اتهامهم أنفسهم بعدم الوصول