كانوا في عصر تأخر وانحطاط. ونحن في عصر الأدب والفن ... لم نصنع شيئاً.
ولو أن أدباءنا عكفوا من أول هذه النهضة على أن يصف كل أديب قريته التي خرج منها وبلدته التي نشأ فيها: ريفها وعمرانها، وشوارعها وميادينها، وآثارها وخلائق أهليها، وعاداتهم في أفراحهم وأتراحهم، وأعراسهم ومآتمهم، وزواجهم وطلاقهم، وجدّهم ولهوهم، وأعيادهم ومواسمهم ... كم كان يجتمع لنا في هذا القرن من الثروة العلمية والأدبية، وكم يَغْنَى تاريخنا ويُفيد أدبُنا؟ وكم من صور الطبيعة، وصفحات التاريخ، وعبقري الشعر وبارع القصص يجتمع لنا؟ وكم من سير الرجال وأحاديث الأبطال، وقصص الحب والجمال، نحفظ من الضياع ونستنقذ من النسيان؟
الأماكن أوعية الحوادث وظروف التاريخ. وما التاريخ إلا زمان ومكان ورجال، وقد مرّ الزمان فلا يعود، وذهب الرجال فلا يرجعون، ولم يبق إلا المكان؛ فهو جسم التاريخ. وإذا نحن رأينا (وأرينا تلاميذَنا) الساحة التي جرت فيها المعركة، والدار التي عاش فيها العظيم، والقلعة التي افتتحها القائد، فقد رجعنا إلى التاريخ وعشنا فيه. وإذا لم نستطع زيارة المكان فلا أقل من أن تكون له اليوم صورة فنرى الصورة، وأن يكون له وصف فنقرأ الوصف.
إن من العرب من يعرف من صفة برج إيفل في باريز والجسر المعلق في نيويورك أكثر مما يعرف عن «ملويّة» سُرّ مَن رأى وجسر بغداد، لأنه يرى هذه في السينما كل يوم ويبصر صورتها